المستنقع

عاشق الفيحاء

كاتب جيد
المستنقع
إنه مستنقعٌ كبير، هكذا كانَ العالم لديه، حتى فقدت حواسه إدراك محيط هذا العالم أجمع، كلّ شيء فيه جامدٌ، أشبه بمومياءَ لا روحَ فيها ولا كيان، منحوتٌ من بقايا عَسفٍ وجهه، مجبّرةٌ بجبسِ اللاوعي روحه، كانَ وما زالَ بقايا إنسان ظاهره أنه لا يأبه بالمحيطين به حتى لم يعد يشعر بوجوده الآخرون،
تكالبَ الزمانُ عليه منذ ولادته، فحين أدركتْ أمه أنها حاملٌ لعنت دورة الحياةِ تلك فما كانَ ينقصها جائعٌ جديد، وأخفتْ عمداً مسألة حملها حتى عن زوجها، وقد ساعدتها بُنيتها الضعيفة على إخفاءِ مراسم الحملِ فظنّها الجاهلون قد زادتْ وزناً بعد شبع !!!، وحين جاءتها آلامُ الولادةِ حملت نفسها وهو يصارعُ داخلها ليخرج، وإلى نهرِ القريةِ توجهت، وناضلت ألم المخاضِ بجبروت متمسكٍ بالحياة، وحين جاءَ صوته يفضح هدوء الليل، أخرجت سكيناً من جيبها وقطعت حبله السرّي الواصلَ بين رحمها وكيانه لتقطع آخر صلةٍ له بها، وتتركه على ضفافِ نهرٍ يبكي وحده دونَ أنْ تراجعَ نفسها حتى بضمّه إلى صدرها أو إرضاعه، نقيق الضفادع كانَ ونيسه حتى الفجر،،،
صوته أيقظ شيخَ القريةِ الذي هرع لموطن الصوتِ فوجده مزرّقاً من البكاءِ والبرودة، وكأنه يناطح الدنيا ليعيش، ضربَ الشيخ كفاً بكفٍ، لقيطٌ يأتيه هذا الفجر - واتهمه زوراً بأنه لقيط -، وسابقَ صوتُ الشيخِ بصيص النورِ ليعلن لأهلِ القريةِ عن مولودٍ فمن عرف حاملاً أيامُ وضعها قريبة فليأتي إليه، وعبثاً، ما جاءَ مبلّغٌ ولا صادقٌ أو فاسق بنبأ، وكأن ألسنة الناسِ قد تكاتفت عمداً لإخفاء هوية المولود الجديد !!!
وكحالِ أيّ لقيطٍ أودعوه الملجأ، ليسابق أشباهه على حلمةٍ ترضعه، اتهموه أنه لا يعرف الشبع، أو يدرك القناعة، فرفضته أكثر من مرضعةٍ لشرهه ونهمه، حينها لم يتعرف على فضيلة الإنسان حوله، لينمو أكثرَ جوعاً للحياةِ، حتى اسمه ما كان يعرفه ولا يعرف هويته، تجاهُل المحيطين به وجوده أكسبه ردةُ فعلٍ جسديةٍ ونفسيةٍ عكسيةٍ فقد نطق أقرانه والصمت يلفعّه، مشى من يقاربه العمر وهو راقدٌ في سرير موحشٍ لا يتحرك، وعن دون أقرانه كان يكبر سريعاً وكأنه يريد اللحاق بالدنيا قبل أن تلحق به !!!
وذاتَ فجرٍ غريب، جاءَ غريب يبحث عن أيدٍ عاملةٍ تساعده في أعماله، فنبذته قريته بعد أن خطا أول خطواته دونَ حتى أنْ تسألَ ولو بدافعِ الإنسانيةِ عن طبيعةِ ذلكَ الغريبِ أو كنهُ العملِ الذي سيسندُ للفتى !!،،،
- من يكون ؟؟
- لا نعرف له اسماً، - أجابت مأمورة الملجأ -
- ألم تجعلوا له اسماً بالنفوس ؟؟؟
- إنه لا يفقه، سمّه بما تريد،
- أفيه علّةٌ حتى تضحّوا به ، أو تهملوا حتى تسميته ؟؟
- أبداً، أبداً يا سيدي لكننا وجدناه منذُ أيامٍ فقط، وبحكم المشاغلِ لمْ نستعلمْ عنه، أو نبحثُ في إيجادِ هويةٍ له، - هكذا أجابت طامعةً ألا يبدّلَ الغريب رأيه !!،،،
أخذه وضمّه لمجموعة أخرى من الصبية الذين حصل عليهم من مناطق أخرى، ورحل بهم عن القرية، ليوّدع الصغيرُ آخر ماضيه دون اختيار، ويتحرك نحو مجهولٍ لا يدركه ولا يعرف له كياناً أو مكاناً !!!
وأخذهُ سيدهُ لقريةٍ كلّ قاطنيها صناعةُ أيديهم نحتُ الحجرِ، ومنه يسترزقون، وبدأت أصابعه الصغيرة تتعلم النحتَ، وخلقَ كيانٍ جديد منه، وعلى غير المتوّقع كانَ إبداعه أكبر، وجمال صناعة يديه أكثر أبهاراً، وعن دون الصبية لم يمرض يوماً، ولم يحاول الهروبَ من منزل ربّ عمله الذي كان العقاب بالخيزرانِ وسيلته للمتخاذلين من السواعد، كانَ بلا قلبٍ يتركهم أياماً جوعى، يعلّقهم بشجرةِ السنديانِ القريبةِ من معمله، وكم تُرَكَ الصبيّ تحت زخاتِ المطرِ عارياً معلقاً ورأسه للأسفلِ يمرّ الناسُ جواره دون أنْ يحاولَ أحدهم مساعدته أو إنقاذِ روحه، بل كانوا يجعلون منه سخريتهم سامحين لصغارهم رشقه بالحجارةِ وبقايا أطعمتهم !، مما تركَ لديه شعوراً بالوحدةِ والألمِ، وندبةً في روحه ألجمتْ فيه أيّ تقبّلٍ لواقعه، صارَ عارياً من كيانه وملامحه الإنسانيةِ، فلاذَ للصمتِ أكثرَ، وزادَ ابتعاداً عن البشر، لتخلو ملامح وجهه من أيّ تعبيرٍ، صارَ محفوراً كتمثال، تفاصيل بارزة وأخرى متداخلة لكنها تخلو من الروحِ والتعبير!!!
بقي الوحيد لدى ربّ عمله بعدَ أنْ نفقَ معظمَ تلاميذه، وهربَ الآخرون!!!، دونَ اسمٍ أو حتى هوية كانَ، وخلال فترة عمله كاملةً لم ينطق بكلمة، حتى ظنّ معلمه كما ظنّ أهالي المنطقةِ أنه أصمّ لا يفقه، وأبكمٌ لا يتحدث، لكنه كان يقوم بما أوكلَ إليه بمهارةٍ مما كان يزيد معلمه قناعةً أن هذا الفتى مسكون بالشيطان، ملبوسٌ بروح إبليس، ظنّه بليداً بلا شعور فقسى عليه وزادَ في تقزيمِ أناه، ومارسَ عليه الضغطَ حيناً والظلمَ أحيان!!!، فما كانَ منه إلا أنْ يزدادَ جهلاً بطريق المشاعرِ للحدِّ الذي ما عادَ يميزُ أو يدرك معنى الحب أو الكراهية، بليد المشاعر، جامد الأحاسيس، الليل والنهار لديه سيان، الأبيض والأسود عنده سواء، كان تمثالاً من بشر، هكذا كان بذاته، دون أنْ يدرك أنّ في أعماقه تصاعداً يزيد وقد ينفجر من حقه المهضوم الذي سلبته له قريته، وسلبه له معلمه، وسلبته إياه منطقة سكنه الجديدة، بل سلبته حقه الحياة !!!
وكبرَ بسرعةٍ عجيبةٍ، حتى بدت ملامحُ الرجولةِ عليه قبلَ أقرانه، زنداهُ قويّانِ لا يكسرهما زندٌ آخر، وكفّاه ضخمان، خشنان، قاسيان، كذاتِ ملامحِ حياته الباردة، كذاتِ ملامح وجهه الغريبة الجامدة التي لا أحاسيسَ فيها ولا شعور، والغريبُ أنه حينَ يجلسُ على كومةِ التبنِ في الإسطبلِ حيث جعلها معلمه مهجعه كان الناظر يظنّه في ملكوتٍ آخر، وفي واقعِ الأمرِ لم يكن يفكر بشيء، ولا أيّ شيء، مخّ خاوٍ، فارغٌ، لا شيء يحرّكه .
قليلاً ما كانَ ينام، لم تشبع عيناه يوماً النوم كما لم تقنعْ معدته يوماً وتشعر بالامتلاء!!، كانَ إذا ما أنهى لربّ عمله ما أراد، يتربّع في الإسطبل ويبدأ النحت بأفكارٍ ومناظر يمليها عليه خياله لا يُخبر عنها أحداً حتى ربّ عمله، فكانت سرّه الدفين، وعلى غيرِ ما هو كانت منحوتاته تعجُّ بالغضب حيناً وبالحبّ أحيان، كانَ يضعُ فيها معاناته، مشاعره الدفينة، وبعد أن ينهيها يخفيها في كهفٍ مهجورٍ يشبه أعماقه التي لم يطلّع عليها سواه!!!
كانَ غضبه يكبر، يكبر، ويكبر، وهو لا يُدركُ أنّ ما فيه صارَ عدوانيةً مخفية، لكنها عدوانية على ذاته، وحربٌ ضدّ حياته، وكره لكل ما يحيطُ به ويحتويه، كانَ يزأرُ في داخله ألفُ صوتٍ يخبره كم هو مهمّشٌ، وكم هم قساةٌ المحيطون به، لكنه بواقعِ الحالِ لا يُدركُ ما فيه، يضعُ سحره في الأحجار علّها تستخرجُ نيرانَ قلبه وتطفئها !!!
استيقظَ ربّ عمله ذاتَ صباحٍ، وكالعادةِ ذهبَ للإسطبل ليأمرَ عبده بالعملِ، فاجئه أنّ الإسطبلَ خاوياً، وسريرُ التبنِ لا يُظهرُ معالمَ عليه أقامت !!، بحثَ عنه في الجوارِ لكنه لم يجده، سألَ عنه في المنطقةِ لكنْ لم يُخبرُ أحداً عن رؤيته، ابتلعَ الرجلُ غيظه، هل هربَ البليدُ بعدَ أنْ سلّمتُ له عنقي ؟؟ هكذا كانَ في أعماقه يتساءلُ أسفاً على ضياعِ أفضل فرصه، فكم مرةً سيجدُ أجيراً لا يأخذُ مالاً عن عمله ؟ وكم مرةً سيحصلُ على أحمقٍ ينامُ على كومةِ تبنٍ ويرضى بالقليلِ، ويعملُ كحمارٍ زاهدٍ بالحياةِ متقبّل للضربِ، مستسلم لسيده ؟
مرّ على هروبه أسبوعان ونسي ربّ العملِ أجيره كما نست المنطقةُ ذلكَ البائس !!! وفي ليلةٍ ماطرةٍ على غيرِ العادةِ وبغيرِ موعدٍ للمطرِ، هربَ راعٍ من مرعى الأغنامِ ولأنه بعيدٌ عن قريته لجأ لكهفٍ مهجورٍ يحتمي وغنماته من ماءِ السماءِ، وعبقتْ بأنفه رائحةٌ كريهةٌ، إنها تشبه رائحةَ الأمواتِ، خشي التوّغلَ في ظلمةِ الكهفِ وبقي على أعتابه ينتظر توّقف المطر، وحينَ صارَ للسماءِ أنْ تكفَّ شدوها أسرعَ حيثُ القرية التي يقعُ الكهفُ فيها، هرعاً لشيخِ المنطقةِ مخبراً إياه عمّا صادفَ، فحملَ الفضولُ الشيخَ والحاضرين للتوّجهِ حيثُ الكهفِ المهجورِ حاملين مشاعلَ في أيديهم فإنْ كانَ الكهفُ مسكناً لعدوٍ قاتل أحرقوه، وإلا فالنارُ تحمي من غدرِ التوّقعات !!!
وتوغلوا في الكهفِ حيثُ أرشدهم الراعي، وكلما توّغلوا أكثرَ زادتْ الرائحةُ الكريهةُ ، حتى وجدوا أنفسهم أمامَ صدمةٍ ما تخيّلها عقلٌ لهم !!!
كانت هنالكَ عشراتُ المنحوتاتِ، تمثالٌ لامرأةٍ تحملُ سكيناً وتهوي به على طفلٍ صغيرٍ يمصُّ إصبعه، وتمثالٌ لراهبةٍ تخنقُ طفلاً بين يديها، وتماثيلَ لجماعةٍ من الفلاحين يحاصرون طفلاً ويضربونه بعصيّ وهو منكمشٌ على بعضه، وتماثيلَ تحملُ أجساداً بشريةً ووجوهاً مخيفةً كادوا يجزمون أنها وجوه شياطين، مع هولِ ما رأوا نسوا رائحةَ الموتِ في الكهفِ إلى أنْ انتبهوا إلى جثةٍ ملقاةٍ بزاويةٍ مظلمةٍ، اقتربوا منها وقلوبهم تتسابقُ طرقاً وخوفاً، كانَ جسداً متعفناً بلا ملامح، تملؤه الديدانُ وحشراتُ الجثثِ، كانَ يحملُ في يمينه خنجراً مصنوعاً من الحجر بينما امتدت يسراه على أغرب التماثيلِ على الإطلاقِ وأكثرها قشعريرةً، كانَ لتمثالٍ يحملُ وجهاً ليسَ بالغريبِ عنهم، يشبه أحداً يعرفونه لكنهم يجهلون شخصيته، تمثالٌ يحملُ روحاً ناطقةً، فيه كلّ شعورٍ يمكن تخيله !، كانَ يصرخُ، في ملامحه كلّ أسى الدنيا، كلّ همومُ الحياةِ وكلّ مواجعِ البشريةِ!
كنزٌ ثمينٌ كانَ بينَ أيديهم، هكذا ثمّنَ الحاضرون ما رأوه، فالنحتُ صناعةُ أيديهم، وأهلُ مكةَ أدرى بشعابها، تركوا مشاعلهم جانباً وتسابقوا على التماثيلَ من فيهم يحصلُ عليها قبلاً، اقتتلوا على ذلكَ الكنزُ الذي صارَ حقاً لهم لوقوعه ضمنَ حدودِ منطقتهم، اقتتلوا وتضاربوا من فيهم يحصلُ على أكثرِ الكنوزِ سعراً، كانوا يقتتلون متناسينَ وجودَ الجثةِ التي كانتْ تشدُّ على الخنجرِ بقوّةٍ وتلمسُ ملامحها بأسف!!!!

 

آنفآس آلمطر

كبار الشخصيات
رد: المستنقع

[align=center][table1="width:95%;"][cell="filter:;"][align=center]
قصة ولا اجمل

رغم التفافها باوراق الحزن الخريفي

إلا انها ممتعة

كل الشكر لك سيدي

اشكرك لتحفتك هذه

تحيتي


ينقل الى قسم الروايات

[/align]
[/cell][/table1][/align]
 

**لوتيس**

كاتب جديد
رد: المستنقع

[align=center]
يسلموووووووووووو كتير على القصة
تقبل مروري المتواضع في صفحتك المميزة
تحياتي لك
yara
[/align]
 

روح المطر

كاتب جيد جدا
رد: المستنقع

[align=center][table1="width:95%;"][cell="filter:;"][align=center]
قصة ولا اجمل

رغم التفافها باوراق الحزن الخريفي

إلا انها ممتعة

كل الشكر لك سيدي

اشكرك لتحفتك هذه

تحيتي


ينقل الى قسم الروايات

[/align][/cell][/table1][/align]

راائع لروعتكي ياغاليتي

جهود راائعة

عاشق الفيحاء

قصة مميزة

وجميلة شكرا لك

كما تقول وشاء الهوى

الروايات فاكهة ليالينا

تحياتي
 
أعلى