موقف وعبرة..قصة من الماضي

عاشق النجوم

كاتب محترف

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

موقف وعبرة..قصة من الماضي

ذات عمر ٍ..في ذات عام ٍ..وما كنت قد بلغت أكثر من إثني عشر ربيعا بعد..وما كنت قد ارتحلت عن الديار ــ ــ إلى دنيا الاغتراب..

أذكر آنذاك..أنه كان لنا بقايا قطيع من الغنم ( الضأن )..وبسبب ضيق ذات اليد ــ بعد ضياع
فلسطين ــ لم يتبق أحد من الرعاة..حيث إن الكثيرين منهم..كانوا قد يمموا شطر دول الخليج ــ خاصة الكويت ــ سعيا وراء الكسب..وبحثا عن مصادر رزق..لهم ولأسرهم..

ولذا..فقد كان أحد إخوتي ــ أكبر مني سنا ــ هو الذي يقوم برعي الأغنام..وكان حاد الطبع..عصبي المزاج..(شايف حاله شوية)..وكان الفصل صيفا..حيث يرد أخي بأغنامه على بئر لنا قريب نوعا ما من القرية..وبعد سقي الأغنام كل يوم..كان يأتي بها للمقيل (ساعات الظهيرة ) في أفياء بضع شجرات من "الخرّوب"..تبعد ما يقرب من 800 متر عن دارنا في القرية..وقد اعتادت الوالدة ــ رحمها الله ــ أن تعد الغداء
لأخي..واقوم أنا( العبد المسكين..بصفتي الأصغر سنا بين إخواني ) أقوم بتوصيل الأكل إلى أخي..وأنتظره حتى ينهي غداءه..ومن ثمّ أعود بالمواعين (صحن من التوتياء وقطعة قماش) إلى البيت..وأسلمها للوالدة ( فهي عهدة في ذمتي)..وهكذا دواليك..

ذات يوم..أعدت الوالدة الطعام..ونادتني لأمارس هواياتي..وأقوم بمهماتي كالمعتاد..ولست
أدري ــ وحتى اليوم ــ ما الذي جدّ في ذلك اليوم..وما الذي جعلني إنسانا آخر غير الذي كنته بالأمس أو قبله..فقد رفضت طلب "أمي"..ورفعت راية العصيان..ولم تفد معي محاولاتها اليائسة..ولا ما حاولت أن تغريني به..مكافأة لي إن أنا أديت المهمة ( أكثر إغراء كان أن تحصل لك على بيضة دجاج تذهب وتشتري بها بعض الحلوى من السوبرماركت الذي كان في قريتنا..والذي هو عبارة عن دكان صغير..فيه عدد من المطربانات التي أغلبها كان بعض أجزائه مكسورة..وعليك أن تكون حذرا عندما تدس يدك في داخله حتى لا تجرحها.. وفي داخله عدد من حبّات الحلوى التي طال بها العهد..وأصبحت منتهية الصلاحية..ولكننا لم نكن لنعبأ كثيرا بذلك..فهذا هو الموجود..وكما يقال : الجود من الموجود)..

ما علينا..أعلنت العصيان..وحتى أستطيع تنفيذ عصياني..أبعدت قليلا عن باب الدار..وعن مدى الاستماع إلى صوت الوالدة وهي تنادي وترجو..حتى لا يرق قلبي لتوسلاتها..ولم تجد توسلاتها نفعا..ولا "الله يرضى عليك يا بنيي كما يقول وديع الصافي..ولا حتى ألله .......عليك (كلمة عكس الرضا)..

وحاولت الوالدة مع بعض أولاد إخواني..ولكن بدون جدوى..فلم تجد لديهم آذانا صاغية أبدا..ودارت هنا وهناك..ولكنها لم تفلح ابدا في إقناع أي منهم بالقيام بالمهمة..فما كان منها إلا أن تقوم هي بنفسها..بإرسال وجبة الغداء لأخي..

حملت الوجبة..وتوجهت إلى المكان الذي يتواجد فيه أخي كالمعتاد..في ظلال شجرات الخرّوب( لا في ظلال الزيزفون)..ودموعها على خديها..تألما..مما كان قد حصل..فقد أحست بانكسار ما بعده انكسار..وكأنها كانت أشبه بقائد عسكري انهزم في معركة مع الأعداء..وكانت تمشي وهي تقدم رجلا وتؤخر الأخرى..تحسب حسابا لذلك الولد(أخي) وكيف سيكون تصرفه إزاء الموقف..خاصة وأن الأكل قد تأخر وصوله عن الموعد المعتاد يوميا..

وصلت الوالدة..ورآها اخي قادمة..تمشي حافية القدمين..فتتحمل حرارة الأرض..وانغراز بعض الأشواك التي تتواجد هناك بكثرة صيفا..وقام أخي وقابلها على بعد بضعة أمتار من المكان..ورغم إنها حاولت إخفاء دموعها..وما تحس به من ألم..إلا انه لحظ ذلك على قسمات وجهها..وقام طبعا بسؤالها عن سبب قدومها هي..وليس أنا..فما كان منها إلا أن أخبرته بوقائع الأحداث..فأخذ يهدد ويتوعد..وأنه سيعاقبني عقابا عسيرا على تمردي وعصياني..والخروج عن المألوف والروتين اليومي..ولا أخفي أنني ما أن شاهدت أمي تغادر في طريقها لإرسال الأكل إلى أخي..حتى شعرت بوخز الضمير..وبالندم الشديد على ما ارتكبت من حماقة..ولكن بعد أن سبق السيف العذل..

عادت الوالدة إلى البيت..وما أن قابلتها حتى أشاحت بوجهها عني..(وكان وقع ذلك علي أشد من وقع الحسام المهنّد )..وأخبرتني أن أخي سيلقنني درسا لن أنساه مدى عمري..على فعلتي الشنعاء تلك..ورغم إنني حاولت أن اظهر عدم اكتراثي بتلك التهديدات ( معتمدا على احتمالية شفاعة والدي ــ رحمه الله ــ لي ) إلا انني كنت بيني وبين نفسي..أرتعد خوفا من عاقبة ما فعلت..وأخذت أفكر في ما سوف أناله من عقاب..حيث إن أخي ذاك لا يهاود ولا يهادن..خاصة وأن الموضوع يتعلق بالوالدة..

ودرت في أنحاء الدار..وأخذت مني الأفكار كل مأخذ..يا ولد شو اللي سوّيته؟ شو اللي صار لك اليوم ؟ ليش هيك تصرفت ؟ والله إنك غبي..وتستاهل كل اللي راح يجرى لك..يا الله يا شاطر إتلقّى وعدكّ! وهكذا..وأكثر ما كان يؤلمني ..ويحز في نفسي..مخالفتي لأمي..وعصيان أمرها..فكيف سمحت لنفسي أن أرتكب مثل تلك الحماقة!!

وبعد أخذ ورد مع نفسي.. ورغم حداثة السن..إلا أنني اتخذت قرارا لا رجعة فيه( ليس مثل قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة..لأنني نفذته فعلا )..وكان القرار يقضي بأن أوقع على نفسي العقوبة..ولكن كيف ؟..لقد قررت أن أقطع مسافة تبلغ ضعفي المسافة التي قطعتها الوالدة ..عندما أوصلت الغداء لأخي..ضعفي المسافة ذهابا..وبالتالي ضعفيه إيابا..نعم ..هكذا صوّر لي عقلي الطفولي آنذاك..بانني بهذه العقوبة..قد أنال رضا الله..وأنه سبحانه سيغفر لي خطيئتي..ويسامحني على ذلك الموقف الذي أغضبت فيه "أمي"..الأم التي يؤكد لنا رسولنا الكريم " أن الجنة تحت أقدامها "..

وفعلا..نفّذت العقوبة..وقطعت تلك المسافة..وعندما رجعت إلى البيت..ذهبت إلى أمي
ــ رحمها الله ــ وأخبرتها بما عاقبت نفسي به..أتدرون ماذا كانت ردة فعلها ؟..لقد احتضنتي بوله..وضمتني إلى صدرها الحنون..وطبعت على خدّي أكثر من قبلة..وهي مستغرقة في ضحكة طويلة..ودموعها (دموع الحنان ) تبلل وجنتيها..وأخذت تقول : ليش يمـّا يا حبيبي سوّيت هيك في نفسك؟ ليش عـذّبت حالك ؟ أنا يا حبيبي مش زعلانة منّك !!!! تصوّروا !! ترى كم من أمهّات اليوم نجد مثل تلك الأم ؟؟

نعم..تلك كانت أمي ــ رحمها الله ــوتلك كانت عواطفها الجيّاشة..وتلك كانت مدرستها..بل جامعتها التي تعلّمت فيها القيم والمبادىء السامية..وها أنا أعلّمها أولادي..

قد تسألونني عما فعله أخي بي عند عودته مساء إلى البيت ..لقد استقبلته تلك الأم الرؤوم..وأخبرته بما قمت به ..وما أوقعته بنفسي من العقوبات..فما كان منه إلا أن أخذ يضحك من سذاجتي (الطفولية)..ومن عفويّتي التي أوحت لي بتللك العقوبة..فناداني.. وبعد أن لامني ..وعاتبني على ما فعلته ذلك اليوم..وتحذيري من عدم تكراره مستقبلا..وإلاّ !!..قدّم لي طائرا كان قد أمسك به في البرية..وبقدر فرحتي بذلك الطائر..إلا أنني وفي لحظات..فكرت في أمه..وكيف أنها ستفتقد غيابه..وأنها في انتظاره كما تفعل أمي لي ولأخوتي..فما كان مني إلا أن أطلقت سراحه..فطار بعيدا..مصفقا بجناحيه..فرحا بفك أسره من جهة..ورغبة في العودة السريعة إلى أحضان أمه..

نعم ..لقد أغضبت أمي..وراضيتها..فرضيت عني وأرضتني..رحمك الله أيتها الأم الحنون..وأسكنك فسيح جناته.

.آ م ي ي ي ي ي ن..
منقول
 

عاشق النجوم

كاتب محترف
رد: موقف وعبرة..قصة من الماضي

[align=center]
قصـــه ذات عبـــره ...
رائـــعه
مرسي عاشق النجوم
... دمت ودام تألقكـ ...
تحيــــاتي ...
[/align]
مشكوره اخيتي على انارتك صفحتي
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك .
موفقه بإذن الله ...
.. لك مني أجمل تحية
 

مواضيع مماثلة

أعلى