الحِكمة يسعى الإنسان منذ نشأته الأولى إلى التعرُّف إلى ذاته وموقعه في الكون والحياة، ومكانته ودوره وتفاعلاته؛ سعياً منه إلى فهم طبيعة المواقف والظروف والانفعالات التي ينبغي عليه أن يقدِّمها أو يكوِّنها في الظروف المختلفة، وحرصاً منه على سلامة نفسه وأدائه ومواقفه، وهذا السلوك التحليليّ إنَّما هو محاولة من الإنسان للهروب من الفراغ المعرفي والتجريبيّ نحو الأمور ومتعلّقاتها، أو ما يصِف العماء الذاتي الذي يحجب عنه الكثير من الأمور والرؤى والسبل السلوكيَّة، وهذه الحالة الدَّاعية إلى تعرف الإنسان لعوالمه ومحيطه هي مجموعة من العلاقات المبنية من المفاهيم التطابقية بين المعارف والمواقف وما يكون عليه الشيء وما ينبغي عليه أن يكون وتنمو وتنبت باجتماع ثلاثة عناصر هي الذكاء والإرادة والمعرفة، لتمثِّل كلُها مجتمعة خصيصةً وميزةً تندُر بين النَّاس لتصبح ذات أثرٍ وقيمة ويعرفها النَّاس بمصطلح الحكمة.[١] Volume 0% معنى الحِكمة في اللغة والاصطلاح تشير كلمة الحكمة في معاجم اللغة إلى اجتماع العلوم والمعارف والقدرات والمهارات، وإلى إعمال العقل وإظهار مكنوناته في العلم والتفقُّه وجمع أفضل الأشياء بأفاضل العلوم وأهمها وأقومها، ثم ما يقود ذلك إلى التصبر والتعقُّل وإخراج الحديث بسديد الرأي وموافقة العقل، فهي التبصُّر في الشيء والإمعان في الموقف حتى ينتج الانفعال والسلوك والرأي بأفضل ما يجب أن يكون عليه.[٢] أمَّا المعنى الاصطلاحي للحكمة فإنَّه يحمل العديد من المفاهيم التي تتقارب مع الإشارات اللغويَّة لذات المصطلح، ففي حينِ عَرضتها الآيات القرآنيَّة الكريمة في الخطابات الربَّانية للبشر في مواضع عديدةٍ وبمعانٍ مختلفة منها العدل والمعرفة والحكم الصَّائب والقياس السليم،[٣] فالمعاجم الفلسفيَّة تصفها بأوصافٍ تتعلَّق بالعلم والتعلّم والتفقّه والعدل، وموافقة الحقّ والحقيقة، ورجاحة الرأي وسداده، وما يحسنُ في إلحاق الأمور مواضعها وينفي الجهل والجهالة، فالعلم حكمة، والعفة حكمة، واكتساب الملكات وموافقة السلوكات حكمة، وتصفها أنماط أخرى من التعريفات الفلسفيَّة بأنَّها هيئة للقوّة العقليَّة وقياسها بين المنافع والمصالح، وهي في أبواب أخرى حسن اختيار الكلام وإنزاله منازله المثلى، فيسمّى الشاعر والفيلسوف بمثل ذلك حكيماً.[٤] كيف تكون حكيماً في حياتك ينطبق مقصود النَّاس ومرادهم وما يتكوَّن لديهم من صورٍ ذهنيَّة لمصطلح الحكمة مع ما تحمله معانيها على اختلافها وتنوّعها، ذلك أنَّ مكوِّنات الحكمة وعناصرها ثابتة معهما تنوَّعت مدارسها وتباينت تعريفاتها، ومما يجعلُ من تحقُّق الحكمة في عيونِ النَّاس أمراً ممكناً لدى فردٍ أو شخصٍ تمتُّعه بالذكاء والمعرفة والعزيمة والإرادة التي هي في حقيقة الأمر عناصر الحكمة وسماتها، ذلك يجعل خصيصة الحكمة ميزةٌ فريدةٌ يمتَّع بها عددٌ من النَّاس لا يكون بين السَّواد الأعظم، غير أنَّ الحقيقة تنزع نحو واقع النَّفس البشريَّة التي تتسم بالنقص والعجز عن الكمال، وبذلك لا يكون الحكيم حكيماً في كلِّ الأمور والمواقف والانفعالات لما يتعيَّن على بشريَّته أن تكون عليه من واقع الحال وطبيعته، فما كمل من عناصر الحكمة لدى الإنسان فهو كمالٌ في حكمته، وما نقص منها يصيبُه فيها فيكونُ أقلَّ حكمةً وتدبيراً مما عداه.[٥] وينبغي على الباحث عن الحكمة والمتزوِّد منها أن يُحدِّد أولاً ماهيَّتها وما يعينه على الاستثمار فيها والاستزادة منها، وأوَّل ما يبين ذلك ويدعمه معرفة كينونة القول والفعل وما يجب قوله من الكلام أو تركه، وما يجب فعله من الأعمال أو هجره، وقياس ذلك بالزَّمان والمكان والشُّخوص، فما يصحُّ في موقفٍ يتعطَّل في غيره، وما يُنطق في زمنٍ يُعاب في غيره، فالمطلب في تحقيق هذا الجانب هو توفُّر الخبرة باستجماع المعارف ومعايشة التجارب ثمَّ القياس السليم وتعميم الخبرات والنزول إلى ميادين الرِّجولة والأخلاق الحميدة والاتّزانِ والسيطرة على رغبات النفس وشهواتها وإحكام قيادة الهوى وضبطه، ويمكن لمن يبحث عن الحكمة أو يسعى لتعلمها وإتقان صنعتها أن يتعرَّف إلى كيفيَّة التدرُّب عليها وتنميطها في الذات، ومن النصائح والوصايا التي تورث الحكمة وتنميهها ما يلي:[٥] على الرَّاغب في أن يكون حكيماً أن يعرف أنَّ الحكمة أصنافٌ وأرزاقٌ متعدِّدة، ومن مصادرها ما يفيض به الله تعالى على عباده فيختص بها أناساً دون آخرين ليتفاضل به هؤلاء ويتداولونها بعلومهم ومجالسهم. الانسجام بين المعتقد والسلوك، إذ إنَّ البراعة والإدارة الحسنة في شؤون الحكمة وأمورها أن يتناسب ما يعتقده المرء ويؤمن به ويحمله في كنوز علومه ومعارفه مع ما تُظهره سلوكاته وتحمله للنَّاس عبر المعايشة والتطبيق المباشر، فإذا ما حدثت مفارقةٌ بين المعارف والسلوكات فإنَّها تحدث شرخاً في ذات الإنسان وإيمانه بنفسه ما يترتَّب عليه غيابُ الإرادة وضعف الدافعيَّة وانسحابُ الشخصيَّة فتصاب الحكمة بضررها العظيم في مثل تلك الظروف. معرفة الإنسان قدره ومقداره ومحدداته وإمكاناته، ويحصر طبائعه وسلوكاته وميزاته وعيوبه، ويتعرَّف إلى جميع أحواله وأنماطه وأمزجته، ويصف مكانته ومنزلته من العلم، وحدود ما يعرفه وما لم يصل إليه من المعارف والعلوم والخبرات، فيقف من يريد أن يكون حكيماً عند حدود معارفه بلا مراءٍ ولا رياءٍ، فإن سُئِل أجاب بعلومه ومعارفه وتوقَّف عند حدودها بلا جدالٍ ولا اجتهادٍ. التأهُّب والدَّافعيَّة المتوقِّدة والمتناميةُ للإنجاز المزيد والترقِّي فوق ما يصل إليه بلا إشباع ولا اكتفاءٍ من العلم والفهم والتعلم، وإشتعال الهمة في تحصيل المعارف وبذل السعة والجهد في الوصول إليها، واستثمار الخصائص والميزات والطاقات في تنمية ذاته مهنياً واجتماعياً وثقافياً وما تيسَّر من جوانب الشخصيَّة وقدراتها، فليس من الحكمة أن يكتفي المرء بما وصل إليه من علومٍ ولا بالتوقُّف عن التعلم. إدراك اتجاهات النَّاس وأنماطهم وأساليب حياتهم وطرائق تفكيرهم وبيئاتهم وظروف معيشتهم وتناغم أفهامهم، فإنَّ ذلك كله يساعد في إمكانيَّة فهم جوانب الأحداث والمواقف، ويبني الأحكام بمنهجيَّة متسلسلةٍ خاليةٍ من الاجتزاء أو الارتجال والتعجّل، ويصنع من الإنسان العادي حكيماً.