النكاح فى الاسلام

قيثارة

كاتب جيد جدا
قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 32].

يقول ابن كثير رحمه الله: تتضمن الآية الكريمة أمرًا بالتزويج، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل مَن قدِر عليه، واحتجُّوا بظاهر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج، ومَنْ لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء))[1]، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تزوَّجوا الودُود الولود؛ فإني مُكاثرٌ بكم الأُمَم يوم القيامة))[2].

والأيامى: جمع أيِّم، ويُقال للمرأة التي لا زوج لها وللرجل الذي لا زوجة له، وقوله تعالى: ﴿ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النور: 32]، فيه ترغيب من الله في التزويج ووعدهم عليه الغنى، وجاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال: "أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، ينجز لكم ما وعدكم من الغنى؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النور: 32]"، وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "التمسوا الغنى في النكاح؛ يقول الله تعالى: ﴿ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النور: 32]، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله))[3]، وقد زوَّج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره، ولم يقدر حتى على خاتم من حديد، ومع هذا زوَّجه بتلك المرأة، وجعل صَداقَها عليـه أن يُعلِّمـها ما معه من القرآن[4] - [5].

المضامين التربوية:
يأمر الله تعالى عباده المسلمين بالزواج؛ لما فيه من غايات سامية؛ منها: حصول الاطمئنان والاستقرار النفسي، وحصول المودَّة والرحمة بين الزوجين، وإشباع الغريزة الجنسية بالطريق الشرعي، والتعارُف والتقارُب بين الناس والشعوب، وحفظ واستمرار النوع البشري، وسلامة المجتمع من الأمراض الحسية والمعنوية التي يسببها العزوف عن الزواج ...إلخ.

وإضافة لكل هذه الغايات السامية، فقد وعد الله تعالى المُـقْدِمِينَ عليه بالغِنى من فضله جل جلاله في حالة كونهم فقراءَ، ويقول القرطبي رحمه الله: إن هذه الآية دليلٌ على تزويج الفقير، ولا يقول: كيف أتزوج وليس لي مال؟ فإن رِزْقَه على الله تعالى[6]، وقال الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، يُنجز لكم ما وعدكم من الغنى"[7].

إنَّ فَضْلَ اللهِ واسع، ورزقه لا حدود له، كما أن لله سبحانه وتعالى نفحات ومكرمات - قد لا تخطر على بال - يتجلَّى بها على عباده الواثقين به، والمتوكلين عليه، فيُهيِّئ لهم أسباب الرزق بعدما ظنُّوا أن الأبواب والمجالات قد أُوصِدت في وجوههم، فهـذا وعـد الله تعالى ولن يخلف الله جل جلاله وعده؛ قال تعالى: ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 6].

وقد حوت الآية الكريمة مضامينَ تربوية عظيمة لموضوع اجتماعي في غاية الأهمية، ومن تلك المضامين، ما يلي:
أولًا: خَلق الله تعالى الإنسان وهو العليم بما يصلح له، وما لا يصلح، ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، ويعلم سبحانه وتعالى أن من أقوى الغرائز الطبيعية فيه الغريزة الجنسية، فإذا لم تشبع بالطريق السوي الذي يريده الله تعالى لجأت إلى الطرق المنحرفة؛ لذلك وجه الله تعالى عباده بالزواج؛ فقال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ [الأعراف: 189]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [النساء: 1].

كما أن هناك أحاديثَ كثيرة تحثُّ على الزواج وترغب فيه؛ منها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج، ومَنْ لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجاء))[8]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تزوَّجوا الودود الولود؛ فإني مُكاثر بكم الأُمَم يوم القيامة))[9]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم للثلاثة الرهط الذين جاؤوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبِروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غَفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه، وما تأخَّر؟ فقال أحدهم: أما أنا فإني أُصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له؛ لكني أصوم وأُفطر، وأُصلي وأرقد، وأتزوَّج النساء، فمن رغب عـن سُنَّتي فليس مني))[10].

وهذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تؤكِّد مدى حرص الإسلام على إشباع الغريزة الجنسية بالزواج الشرعي؛ فهو الطريق الوحيد للعفَّة والستر والصلاح، وكل دعوة لإشباع الغريزة الجنسية بخلاف ذلك، فهي دعوة شيطانية منحرفة تجرُّ وراءها المصائب والنكبات والفساد الخُلُقي والاجتماعي؛ لمخالفتها فطرة الله التي فطر الناس عليها.

ثانيًا: إن المجتمع الإسلامي مجتمع يتميَّز عن غيره من المجتمعات بميزات عدة، فأعظم ميزة له رباط الأخوَّة الإيمانية؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، ثم هناك توجيهات شرعية عدة تؤكِّد وَحدته وتماسُكه، وبها أيضًا يتميَّز المجتمع الإسلامي عن غيره، منها: قول الله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، وقـول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضًا، ثم شبـَّك بين أصابعه))[11]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسَّهَر والحُمَّى))[12]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه))[13]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((والله في عون العبد ما دام العبدُ في عون أخيه))[14].

وهذه التوجيهات وأمثالها كثيرةٌ في الإسلام، كلُّها تؤكِّد على تماسُك المجتمع ووحدته، وإن الامتثال لهذه التوجيهات يترتَّب عليه السعادة والخير الكثير في الدنيا والآخرة، ولا شك أن مساعدة المسلم لأخيه المسلم والوقوف معه في أمور الزواج بأي شكل من أشكال المساعدة سواء المادية أو العينية أو المعنوية، داخلة ضمن هذه التوجيهات الحاضَّة على التعاوُن والتماسُك والأخوَّة.

ثالثًا: إن إنشاء جمعيات أهلية خيرية لمساعدة الراغبين على الزواج هذه الأيام، أصبح أمرًا في غاية الأهمية ومطلبًا ملحًّا في ظل التكاليف الباهظة التي يتطلَّبها الزواج، والتي تنوء بكاهل الكثير من الشباب، وتوجد في المملكة العربية السعودية - ولله الحمد - جهات متعددة، تتولَّى تقديم الإعانات لراغبي الزواج: حكومية، والأخرى أهلية، ولكل منها فروعٌ في بعض المناطق، فالجهة الحكومية هي: (بنك التسليف والادِّخار السعودي)، ويُعطي قرضًا للزواج يُقدَّر بستين ألف ريال وَفق شروط معينة، وفعلًا قُدَّمت هذه القروض فوائدَ جليلة تَحَصَّن بها الكثير من الشباب، واستقرَّت حياتهم بعد أن كانوا في متاهات العزوبية تائهين، فجزى الله ولاة الأمر خير الجزاء على هذه الجهود المباركة.

أما الجهة الأهلية فتُمثلها عدة جمعيَّات خيرية في مختلف مناطق المملكة، ويشرف عليها نُخبة من المشايخ وطلبة العلم الكرام، وحبذا نشر أفكار هذه الجمعيَّات في المجتمعات الإسلامية، مع السعي إلى تقديم الدعم المادي والمعنوي لها عن طريق الموسرين وأهل الخير في العالم الإسلامي؛ ليعم نفعُها كافةَ شباب الإسلام في البلاد الإسلامية.

رابعًا: ينبغي على المجتمع المسلم التعاوُن والتناصُح للقضاء على العقبات التي تقف حائلًا أمام الراغبين في الزواج، وما أكثرَها هذه الأيام! ومنها على سبيل المثال: الارتفاع الفاحش في المهور لدى بعض القبائل والعشائر، وأحيانًا في المدن، والإسراف الواضح في وليمة الزواج مع عدم المحافظة على بقايا الطعام في الكثير من الحفلات، وتعدُّد المناسبات والحفلات قبل مراسم الزواج الرئيسة، فهناك: (يوم تسليم المهر، والشَّبْكَة أو المِلْكَة، والغُمْرة ثم الدُّخْلَة ...إلخ)، ثم تأتي الهدايا التي يقدمها العريس لوالد العروس وأُمِّها وجدتها وإخوانها، وبعد ذلك تأثيث سكن الزوجيـة، وإحضار مُغنِّيات أو مُنشدات للنساء، أو مغنِّين أو مُنشدين للرجال يُدفَع إلى بعضهم مبالغُ مرتفعة، ناهيك عن المحظورات الشرعية التي قد تُصاحِب كلَّ ذلك.

إنني أدعو الجميع دون استثناء - وخصوصًا العقلاء ومن بيده العصمة - إلى أن يتَّقُوا الله تعالى في حفلات الزواج، وأن يعملوا على تقليل وتخفيف تكاليفه بالصورة المعقولة والمقبولة من غير إفراط أو تفريطٍ، لِما في ذلك من البركة والخير للزوجين، ويُؤكِّده حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أعظمُ النساء بركةً أيسرُهُنَّ صداقًا))[15]، وفي روايـة: ((أيْسَرُهُنَّ مؤونةً))[16]، كما أن في ذلك قدوة للغير، وينال المُقْتَدَى به الأجر؛ لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سَنَّ سُنَّةً حسنةً فعمل بها كان له أجرها ومثل أجر مَنْ عمِل بها، لا ينقص من أجورهم شيئًا، ومَنْ سَنَّ سُنَّةً سيئةً فعمِـل بها كان عليه وِزْرُهـا ووِزْرُ مَنْ عمِل بها لا ينقص من أوزارهم شيئًا))[17].

خامسًا: إن زيادة الناس قابَله توسُّع في العمران، وأدَّى ذلك إلى تباعُد بعضهم عـن بعض، أضِفْ إلى ذلك انشغال الكثير منهم في أمور الدنيا، وعدم وجود وقت للتعارُف أو التزاوُر، كل ذلك تسبَّب في عدم معرفةِ الأُسَرِ بعضِها بعضًا؛ مما جعل الكثير من الشباب والشابَّات يحجب عن الموافقة للارتباط بالآخر لعدم المعرفة الكاملة لكل منهما.

وهذا الواقع العصري الجديد يفرض وبإلحاح شديد إنشاءَ جمعيات ذات فروع متعددة تُعنى بتعريف الراغبين في الزواج من الجنسين، شريطة أن تتسم أعمال الجمعية بالسرية التامة، وهذا يتطلب أن يكون المشرفون عليها من الأخيار المعروفين بالصلاح والتقوى والسمعة الحسنة، وبالإمكان أن تحصل الجمعية على مقابل مادي رمزي للقيام بهذه المهمة في حالة عدم وجود مخصَّصات مالية خيرية تغطي أعمالها.

سادسًا: مع ارتفاع نسبة الطلاق وخصوصًا لحديثي الزواج التي وصلـت إلى 25% في بعض المجتمعات الإسلامية؛ أي: (25) حالة طلاق لكل (100) زواج، وهي دون شك نسبة عالية جدًّا، ويترتَّب عليها مخاطر اجتماعية كبيرة؛ منها: التفكُّك الأُسري، وتشتُّت الأطفال إن وجدوا، وارتفاع نسبة المطلقات، وازدياد نسبة العنوسة؛ لعزوف الشباب عن الزواج كردِّ فعل لارتفاع نِسَب الطلاق.

وهذا الواقع يفرض على المهتمين بالشؤون الاجتماعية والمصلحين والمربِّين - أن يكون في كل حي جمعية للحماية والاستشارة الأسرية، يشرف عليها متخصِّصون في الشؤون الدينية والاجتماعية والتربوية والنفسية، وموثوق بهم، تتولَّى الإصلاح والتوفيق بين الأزواج، ومعالجة المشكلات الأسرية بسرية تامَّة؛ لأن كثيرًا من حالات الطلاق تكون بسبب أمور تافهة تُركت وأُهملت حتى كَبرت في نفوس الزوجَيْنِ وعَظُم أمرُها، وحدث ما حدَث، كما يتطلب أن تقوم هذه الجمعيات بتقديم دورات توجيهية للراغبين في الزواج للشباب وللشابات، وبهذين المقترحين يُفضَّل عدم إتمام عملية الزواج أو إثبات عملية الطلاق، إلا بعد إحضار ما يثبت الرجوع إلى هذه الجمعية.

أسأل الله تعالى أن يصلحَ أحوال المسلمين، وأن يَهدينا ويُسدِّدنا في أعمالنا وأقوالنا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

مواضيع مماثلة

أعلى