معركة جنين

عطر الجنه

كاتب محترف
عندما أعلنت بريطانيا إنهاء الانتداب وعزمها على مغادرة فلسطين في الخامس عشر من أيار/ مايو عام 1948، بدأ اليهود يستعدون للاستيلاء على المدن والقرى الفلسطينية. وأخذ أبناء فلسطين يشترون السلاح من الأردن وسورية ومصر والعراق للدفاع عن أنفسهم وبلدانهم. وفي تلك الفترة قام عبد القادر الحسيني* بزيارة لمدينة جنين*، وتم عقد اجتماعات في المدينة وقراها لترتيب أمر الدفاع عنها. وعلى أثرها تطوع عدد كبير للجهاد بقيادة المناضل فوزي جرار، تحت رعاية الهيئة العربية العليا*، وقيادة عبد القادر الحسيني. وقام عدد من أبناء قرى جنين ومنهم: نجيب الأحمد* من رمانة، ومصطفى الأسمر من أم الفحم*، وعبد الرحمن عبد الحميد من اليامون*، وعبد الغني سنان من جنين بتشكيل فصائل ومجموعات من المناضلين للمشاركة في الدفاع عن المنطقة ريثما تدخل الجيوش العربية إلى فلسطين. وقبل بدء أنسحاب القوات البريطانية، بدأت العصابات الصهيونية تستولي على طرق المواصلات، وتغير على المدن والقرى وتستولي عليها وتشرد أهلها. ولما كانت مدينة جنين تتميز بموقع استراتيجي هام، فهي تقع على المدخل الرئيسي لمرج ابن عامر* إلى جبال نابلس*، وهو الطريق الداخلي الوحيد الذي يربط شمال فلسطين بجنوبها، وهي مركز تجمع لطرق المواصلات القادمة من نابلس وبيسان* والناصرة* وحيفا*، ولذا فقد بدأ اليهود منذ السادس عشر من أيار بالاستعداد للزحف على جنين، وأخذت طائراتهم تشن غاراتها يومياً، وقاموا بمهاجمة القرى الواقعة شمالها واحتلوها.
حشد اليهود قوات ضخمة في منطقة العفولة* على بعد 12 كم شمال جنين، زادت على خمسة آلاف مقاتل، فكانت أربع فرق كل فرقة من (1250) مقاتل. انطلقت من قاعدة العفولة. واحتلت قرية الجلمة* وصندلة، وتقدمت صوب مدينة جنين في اتجاهات ثلاثة: الجناح الأيمن عن طريق وادي برقين* إلى الغرب من جنين، والأيسر من ناحية عربونه والمزار. وفيما كان هؤلاء يزحفون نحو المرتفعات المحيطة بالمدينة ويحتلونها، جاءت كتيبة من الوسط وكانت في القلب عن طريق العام، وتوقفت عند جسر خروبة.
بدأ القتال عندما حاولت الكتيبة الصهيونية الاستيلاء على جسر خروبة،فصمد حراس الجسر من العراقيين، واستطاعت الحامية العراقية بقيادة الركن نوح عبد الله التي كانت قد وصلت جنين في 28 أيار/ مايو وعدد أفرادها 180، واتخذت من “القلعة” مركزاً لقيادتها من تأخير الزحف أكثر من ساعة، استشهد خلالها تسعة عشر جندياً منهم، وانسحب الباقون إلى القلعة. وانطلقت الكتيبة الصهيونية إلى قلب المدينة تحتل منازلها وتركز هجومها على القلعة. وكان كثير من اليهود يرتدون الأزياء والملابس العربية والعسكرية منها والمدنية، لتضليل أهل القرى والقيادة العسكرية العراقية. واستمر القتال من الساعة الواحدة بعد منتصف الليل حتى السادسة صباحاً واحتل اليهود معظم أحياء المدينة. وكانت خطة الرئيس نوح داخل القلعة، الدفاع عن المركز وصد الهجوم المتواصل، والمحافظة على أرواح الأهالي الذين لجأوا إلى المركز، وطلب النجدات من القيادة العراقية في نابلس. ولما امتدت ساعات القتال، وأخذت الذخيرة تنفد، ألح في طلب النجدة حتى تحرك فوج عراقي نحو جنين. أما المناضلون الفلسطينيون فقد استبسلوا في الدفاع عن المدينة، وقاتلوا من شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت، وانهمك سكان القرى باستقرار النجدات من جميع القرى لتنجد حامية المدينة. فشاغلت قوات العدو ساعتين، وأرغمها على تخفيف ضغطها عن المركز. مما أدى إلى سقوط عشرات من المقاتلين. وفي الوقت الذي توالت فيه النجدات لليهود من العفولة، وصل الفوج العراقي يقوده العقيد صالح زكي والمقدم عمر علي إلى مفرق قباطية* عند بئر جنزور على بعد ثلاثة كيلومترات من جنين. وراح العراقيون يقصفون المواقع اليهودية بنيران مدافعهم، التي أخذت تمهد لعمليات الزحف. وتقدمت القوات العراقية نحو المرتفعات الشرقية والغربية. وارتفعت معنويات المتطوعين المجاهدين، وانطلقوا إلى أوكار العصابات في وسط المدينة، يقاتلونهم في ساحات مكشوفة، يرغمونهم على الخروج والفرار. واحتل العراقيون سفوح جبال برقون، واشتبكوا بالسلاح الأبيض مع اليهود. وفي الساعة الثالثة والنصف من صباج الجمعة الرابع من حزيران/ يونيو بدأ اليهود ينسحبون، وأخذ المناضلون يظهرون المدينة بيتاً بيتاً من الأعداء. وقبل صلاة الجمعة كانت المدينة كلها قد طهرت.
كان لمعركة جنين نتائج هامة ترتبت عليها آثار امتدت إلى ما بعد القتال، وأهمها:
أولاً: انتهت المعركة بنصر مبين للعرب، وأرغم اليهود على مغادرة جنين، وكان قتلاهم في المعركة كثيرون، فقد ذكر اليهود أن عدد القتلى والمفقودين بلغ في معركة جنين (1241). وأحصى المقدم عمر علي من لم يسحوبهم من القتلى فوجد أنهم ثلاثمائة وخمسين بينهم قائد الحملة، ووجد في جيب القائد المقتول أوراقاً تقول أن اليهود كانوا بعد احتلال جنين يعتزمون السير في اتجاهين، فريق باتجاه دير شرق* وطولكرم* وفريق باتجاه وادي الباذان ونابلس. وأما شهداء العرب فكانوا: خمسين من العراقين دفنوا في مقبرة الشهداء عند مثلث قباطية. استشهد منهم تسعة عشر في معركة جسر خروبة، وخمسة عشر داخل القلعة، وثلاثة عشر في استعادة قرى شمال جنين والباقي في جبال جنين. واستشهد سبعة وثلاثون من المجاهدين الفلسطينيين، عشرون منهم وهم يدافعون عن المدينة وسبعة عشر في أثناء استرجاع قرى شمال جنين. واستشهد ستة وأربعون ما بين طفل وإمرأة واعتزل من السلاح. وغنم العرب في المعركة كمية كبيرة من الأسلحة والعتاد.
ثانيا: بعد انتهاء الهدنة الأولى في 9 تموز/ يوليو 1948، قام العراقيون والمناضلون الفلسطينيون بهجوم على القوات اليهودية التي تمركزت في القرى شمال جنين. وبعد يومين من الهجوم استردوا سبع قرى منها هي: قفوعة وعرانة وصندلة والجلمة وعربونة ودير غزالة ومقبيلة. وبينما كان المناضلون الفلسطينيون يرسمون الخطط لاسترداد المزار وزرعين*، تقدم أربعمائة منهم مساء الحادي عشر من تموز/ يوليو نحو زرعين، وكان يقودهم فوزي جرار، فرأوا العراقيين ينسحبون وعلموا أن الأوامر جاءتهم بالانسحاب من جنين إلى نابلس. ولو ثابر الجيش العراقي في زحفه لاحتل جميع مستعمرات اليهود في مرج ابن عامر.
ثالثا: كانت جنين المدينة الوحيدة التي احتلها اليهود، وطردوا منها بالقوة، ولكن الأهم من ذلك أن طردهم منها أخر احتلالهم للضفة الغربية حتى عام 1967، كما يقول “حاييم هيرتزوع” في كتابه “الحرب والسلام في الشرق الأوسط”.
رابعا: بعد معركة جنين ارتفعت المعنويات في منطقة المثلث (جنين – نابلس – طولكرم) وانتشر الذعر والخوف في المستعمرات الصهيونية، وقام كثير من سكانها بالرحيل إلى المدن ينشدون الأمن فيها.
خامسا: بعد معركة جنين قام العراقيون بتعيين ضباط من أبناء المنطقة برتبة ملازم أول فخري في الجيش العراقي، إكراماً لهم ولنضالهم، وهم: فوزي جرار ونجيب الأحمد ومصطفى الأسمر ومحمد المثقال ومحمد سليم الشنار وسامي الأحمد وعبد الرحمن عبد الحميد.
وقبل انسحاب الجيش العراقي من جنين أقام بالتعاون مع بلدية جنين، نصباً تذكارياً وسط المدينة، تذكاراً لشهداء جنين وقراها، وتم الاحتفال بإزاحة الستار عنه وألقى المقدم محمود شيت خطاب قصيدة رائعة. كما أقام الجيش العراقي نصباً تذكارياً آخر لشهداء العراق في المعركة عند مفرق طريق (جنين – قباطية – نابلس).

 

وقت666

كاتب جيد جدا
يا عطر الجنه موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .
 

مواضيع مماثلة

أعلى