قصة أرض الجرذان

قيثارة

كاتب جيد جدا


كان الفأر فرفور جالسًا متَّكِئًا على فرعٍ من فروع شجرة كبيرة في ناحية من غابة كثيفة الأشجار، قليلة الحيوانات، ينظر إلى الأشجار من حوله، فيبهجه منظرها الجميل الأخاذ، وينعم بالهدوء في هذه الناحية من الغابة النائية البعيدة عن أعين الحيوانات، يشَمُّ رائحة الأزهار، ويتنعم بكلِّ ما طابَ من الثمارِ.

وهو في ضجعته الهنية، جاءته زوجته فرفورة بثمرة غضةٍجَميلة من ثمار الشجرة، وقدَّمتها له في حُنُوٍّ وأدب جمٍّ، تناول السيد فرفور الثمرة من يد السيدة زوجته فرفورة، ناظرًا إليها بوجه يملؤه الفرح والسعادة، وقد لعَّب شواربه، ورفع أحد حاجبيه، قائلاً: مرحبًا زوجتي فأرتي فرفورتي الحبيبة، عندها تناول الثمرة ينهش فيها نهشًا، وقد زاد فرحه وعجبه بنفسه، فمال وأسند ظهره إلى فرع الشجرة، واضعًا رِجلاً على رجل، وقد لف ذيله على رقبته، وكأنما هو شال صعيدي مزركش، وهو يأكل متنعمًا هانئًا بثمرته، مقلبًا حاجبيه، متحدثًا ومغمغمًا بكلمات يفوح منها العجب والسعادة والهناء، مصورًا لزوجته أنه لا أقوى في الغابة منه، حتى ولو كان الأسد.

تسمع زوجته فرفورة منه هذا الكلام وهي مغتبطة لما تسمعه من فرفورها الصغير العجوز، فقالت له: ما لك تتحدث بكلمات سعيدة، هانئًا، سعيدًا، كأنك أصبحت ملك الغابة، أو كأنك رجعت إلى شبابك يا جرذي العزيز؟! ألم تنظر إلى نفسك؟! فقد ابيضَّ شعر جسمك، ألا ترى شواربك صارت بيضاء طويلةً، وأنفك قد صار دقيقًا ورفيعًا، وجسمك قد أُضمر، وسمعك قد خف؟! فيزداد فرفور في تحريك شواربه، وتقليب حواجبه.

وفجأة وقد اغتاظ الجرذ من ادعاء زوجته بأنه قد صار عجوزًا لا شباب له، فينهض وينقض عليها انقضاضًا، ويطوقها بكلتا يديه، وتحاول أن تهرب منه فتدفعه وتركض، فإذا بهما يسقطان من فوق الغصن على الأرض، ويريان نفسيهما أمام كلب يتحاور مع قط، فيرتعبان ويفران هربًا، ويتبعهما الهر، والكلب نابحًا، والهر يعلو مُواؤه ضجرًا، ويزيد الفأر في سرعته، والفأرة تركض خلفه، مرتجفة نادمة على دفعها لفأرها.

فرَّا، هرَبَا، تسابَقَا، خلف أَكَمَة وقفَا، ينظران الهر، فقد غابا عن نظره، فيريانه يتشمم ويتحسس اتجاههما، فيركضان بسرعة، حتى وصلا إلى جحرهما، ودلفا فيه، وقد أبصرهما الهر، فتابع الركض خلفهما، حتى وصلا إلى جحرهما الضيق، فندم الهر على طعام قد ضاع منه، وأخذ يعنف نفسه على ضعفه وقلة حيلته.

جثم الهر على باب الجحر يترقب خروجهما، ويتظاهر بالبعد عن فوهته، متيقظًا لخروجهما خارج الجحر، وفي داخل الجحر انزوى فرفور بركن ناءٍ، مرتعبًا يرتجف، وقد التصقت به فرفورة، وتقول - ناظرة له وعيناها تلمعان -: أراك زوجي القوي ترتجف، فيقول لها: لا تتكلمي، وضعي يدك على قلبي، فقد كاد يتوقف من الخوف والوجل، وترد عليه قائلة: لا تخف زوجي العزيز، هي عاصفة، وسرعان ما سوف تنتهي، ويعود الهر من حيث أتى.

فيغمغم فرفور متلعثمًا ومتهالكًا على نفسه قائلاً: ما الذي جاء بهذا إلى هنا؟ وهل الذي ساقه هذا الكلب؟ لقد ضاع أمننا، ولكن لست خائفًا على نفسي بقدر خوفي عليك فرفورتي، وعلى أولادنا الذين لا يعرفون شيئًا، فلو خرج واحد منهم الآن من جحره لالتقمه ذلك الجبار، فإنني رأيت في عينيه الشرر يتطاير، إذًا فكري معي فرفورتي الخائفة، كيف نتخلص من هذا العدو الذي جاء ينغص علينا حياتنا في أرضنا التي عشنا فيها وعليها في أمن وسعادة وسلام، منذ أن توارثناها عن الآباء والأجداد؟

تقول له: زوجي، دعك من الخوف والقلق، ونم قليلاً، وسنفكر في طريقة جيدة نتخلص بها من هذا الهر، الذي جاء إلى أرضنا، لن نتركها له، ولا لغيره، ولن نختبئ داخل جحورنا، لا بد أن نهلكه، ونقضي عليه بعقولنا وتفكيرنا، إن كانت لنا عقول نفكر بها.

نام فرفور متعبًا، وقد كان بطنه يعلو ويهبط ككير الحداد، وتارة يغمض عينيه ويفتحهما فجأةً، يفكر في نفسه قائلاً: لقد كنت الآن بين فكي وأنياب هذا العدو، كنت مأكولاً لا محالة، فالحمد لله لقد نجوت، ولكن هل سأظل داخل هذا الجحر حتى أموت؟! وبجواره قد رأى فرفورة قد غطت في النوم، وكانت تفتح عينًا وتغلق أخرى، وأذناها تسترقان السمع من الخارج.

عندما جاء المساء خرج فرفور من الجحر يتلصص على العدو، وخلفه فرفورة، وأخذا يدوران على كل جحر من جحور الفئران، يدعوان مَن فيه لاجتماع طارئ، منبهين إلى العدو الذي حل بأرضهم، ولا بد من اتخاذ قرار للتخلص منه قبل أن يأتي الصباح.

وفي الصباح الباكر اجتمعت كل فئران الأرض المهجورة من ناحية الغابة المسحورة، وقالوا: لا بد أن نختار الاجتماع أمام باب دار لنا من دورنا الكبيرة، ويقف حراس منا في كل مكان، وفي كل اتجاه؛ لنكون في مأمن ونحن في اجتماعنا.

وقف القائد، وخطب بصوت جهوري حزين أجش، قائلاً: لقد عشنا ما عشنا في هذه الناحية المهجورة من تلك الغابة المسحورة؛ حتى لا يعرف بنا أحد من حيوانات الغابة، ويقلقنا في عيشنا، لقد أتى أمس هر وكلب إلى أرضنا، فلا أمن ولا اطمئنان بعد اليوم، إن لم نتخلص من هذين العدوين اللدودين، فلا مكان لنا في أرضنا بعد اليوم، فعلينا - إذًا - أن نفكر بجد في حيلة أو طريقة بها نتخلص من عدونا اللدود الأكبر، ألا وهو... أتعرفونه؟ فردت جميع الجِرذان قائلة بصوت واحد: الهر، فتابع القائد قائلاً: نعم، إنه الهر، العدو اللدود، وإلا أكَلَ صغارنا، وأكلنا جميعًا، أو عشنا خائفين في جحورنا في باطن الأرض حتى نموت.

يخطب القائد، وقد أطرقت الجرذان وجوهها إلى الأرض، وقد لفت أذيالها تحتها، كلٌّ يفكر في نفسه، قائلاً: ماذا يلحق بصغارنا في الغد المشؤوم؟ لقد أصبحنا في أرض لا أمن فيها ولا اطمئنان، فقد جاء من عرَف طريقنا ليأكلنا، ويتخلص منا، ويستعمر أرضنا.

نهض أحد شيوخ الجرذان، قائلاً: عندي فكرة أيها القائد، نعرف أن الهر والكلب عدوان، فكيف تصاحبا وتفاهما اليوم؟! لا بد أن نقلب هذا التفاهم إلى خصام وعداوة بينهما، ونجعل الكلب في صفنا، ويقتل الهر، وبذلك نتخلص منه، ونعيش هانئين سعداء في أرضنا، فالكلب لا يأكلنا، قال القائد: جيدٌ، إذًا ما الحيلة التي يمكن اتخاذها في ذلك أيها الشيخ؟

نهض شيخ عجوز من الجرذان، قد مد شاربه الكث الأبيض، وامتعض فاه، قائلاً: نحن لا نقوى على التفاهم بين الكلب والهر لإيجاد البغض والكره بينهما، فلربما خادعنا أو غافلنا وانقض علينا الهر يأكلنا، ويلتهم صغارنا، وربما جاء بطائفة من بني جنسه، واستعمروا أرضنا، ونظل في مفاوضات واجتماعات، ولقاءات ومعاهدات، وهو يهدم بيوتنا، ويأكل صغارنا، ويُرمِّل نساءنا، ويُسوِّف في وعوده معنا، حتى يقضي على آخرنا، عندي فكرة أيها القائد، قال القائد: ما هي يا شيخنا الجليل؟ فقد عقدنا اجتماعنا لتدارس أمرنا، قال الشيخ العجوز: أن نحفر جحرًا فوهته كبيرة، بحيث يستطيع أن يدخل منها هذا الهر العدو اللدود، ونجعل هذا الجحر عميقًا وذا باب من اتجاه آخر، وعلى أن يكون ضيقًا، بحيث لا يستطيع أن ينفذ هذا العدو منه، وندخل جحورنا، ويقف بعض منا على فوهة الجحر الكبيرة الواسعة، حتى يراهم هذا العدو اللدود، فإذا اقترب منهم تلكعوا؛ حتى تتحرك شهيته للأكل، وينتفض جسمه للانقضاض، حينئذٍ يدخلون الجحر مسرعين، فيدلف العدو خلفهم راكضًا داخل الجحر، فيخرجون مسرعين من الباب الخلفي الضيق الآخر، ونكون له بالمرصاد، فنقوم بردم فوهة الجحر الواسعة بالتراب، وبذلك نكون قد حبسناه داخل الجحر، فلا يستطيع الخروج من الفتحة الضيقة التي فر منها إخواننا، ولا يستطيع الرجوع والخروج من الفوهة الكبيرة التي قد قفلناها وردمناها عليه، ونجلس على التراب الذي قد ردمناه على فوهة ذلك الجحر، فلا يقوى عدونا على فضه، وبذلك نتخلص منه، قبل أن يتسرب خبرنا إلى حاشيته من القطط، فيأتوا ويستعمرونا.

عندها سُرَّ وابتسم القائد، وصفق جميع الجرذان، قائلين - في نفَس واحد -: يعيش مولانا الشيخ العجوز، يعيش مولانا الشيخ العجوز!

 

مواضيع مماثلة

أعلى