من التغريبة الفلسطينية.. مُهنْدسَ الأفرانِ وخَبِيرَ المخابزِ وفَيْلَسُوفِها؛ في ذمة الله

عبدالحي عداربه

كاتب جيد جدا
بسم الله الرحمن الرحيم
مُهنْدسَ الأفرانِ
وخَبِيرَ المخابزِ
وفَيْلَسُوفِها
في ذمة الله
!!!!!!!!
!!
!
صفحةٌ مِنَ التاريخِ
الفلسطينيِّ الـمُعاصر
..
!!!
!!
!
"مُحمد الدوايمة"
"أبا خالد"
عليه رحمة الله
!!!!!!!!!!!
نقف اليوم لنتذاكر حركة التاريخ الفلسطيني في المهجر , واصرار المـُهاجرين على الحياة , وكيف حقق المهاجر ذاته رغم قسوة التهجير , فهناك النجاحات الجماعية والشركات , وهنا التفوق الفردي الرائع , وبينهما المتواضع ومن رضي بالقليل ويَنْتظرْ , وكلٌ له مبرراته ووسائله وأدواته , وكلٌ في موقعه وإصراره على الحياة يؤكد "أن العودة حق ؛ ودونها الباطل , وحتمية النصر والعودة بإذن الله " ....
سَنة 1948م بدأت طوفان المهاجرين الفلسطينيين , عفوا !!!! بل بدأ "المـُهجّرين" من أهل فلسطين ؛ الحفر في ربوع الأرض كهوفا وملاجئ , وبناء "خِيام الشتات" في داخل فلسطين وخارجِ أطرافها , والهجرة تبْلغ الذروة ؛ من سنة 1967م ؛ بمشهد مؤلم يعجز القلم عن وصفه , ففي شرق النهر من غور الأردن الصامد ؛ كانت برهة الراحة من العناء , وعلى مقربة من فلسطين , وتحت أزيز رصاص بنادق الاحتلال وقصف مدافعه ؛ وهدير دباباته , وأصوات طائراته " طائرات شبح الموت الأسود "الميراج" ؛ التي تحلق على مدار الساعة ؛ مخترقةً حاجز الصوت ؛ لتصدر انفجارات صوتية مرعبة , تزلزل القلوب قبل أن تَصُمَّ الآذان , رغم كل هذه الأحوال المرعبة والمحرمة دوليا ضد المدنيين , تم بناء خِيام اللجوء والشتات , في منطقة "الكرامة والشونة" , "دامية وغور نمرين" "الصافي والغور الجنوبي والشمالي" ؛ لتنتصب خيام النازحين ؛ وخيام الإغاثة إلى جانب خيام المدارس والتعليم ؛ ليطل علينا كمثال :: أستاذنا اللطيف ؛ والمدير المتواضع "جميل بن عياد الوحيدي " "ورفاق دربه من أساتذة مشاهير , لهم جميعا كل التقدير الاحترام "..
وتواجد المهاجرين على طول الأغوار من حدود فلسطين التاريخية , خطوة من الصمود والتحدي والمقاومة رغم ضعف الإمكانيات أمام عدم رغبة الكيانات السياسية في المنطقة ؛ بالتجمعات الفلسطينية قرب الحدود , ومن بين هذه الخيام خيمة عائلة الشيخ "موسى جبرين جابر العداربه " , ومعهم والده الشيخ الـمُسِنْ "جبرين جابر عبد الدايم " من مواليد القرن التاسع عشر "عليه رحمة الله " , ومن بينهم اليافع بعنفوان الرجال "مُحمد الدوايمة" ؛ شخصية مقالنا التاريخي ؛ نطالعها اليوم ؛ كمثالٍ حيّْ ؛ من صفحاتِ تاريخَ فلسطينَ المعاصر ..
وعلى مدار أكثر من 6 أشهر من ذلك العام المؤلم في تاريخ القضية الفلسطينية "1967-1968" , لم تتوقف إدارة الاحتلال وجيشه الظالم ؛ وبكل معداته ودباباته ومدافعه وطائراته ؛ بملاحقة المهاجرين بنيرانهم المرعبة ؛ لإجبارهم على النزوح بعيدا عن حدود فلسطين التاريخية , ولفرض معادلة قهرية على المهاجرين ...
وفي ليلة وجيعة ؛ سبقها تدمير المدارس في منطقة الكرامة , وحرق مخازن التمون لهيئات الإغاثة , واشعال النار في محطة وقود السيارات الوحيدة في المنطقة , وتسليط الاحتلال الغاشم فوهات مدافعه الثقيلة , ونيرانه الكثيفة نحو خيام المهاجرين وحولها , ليمزق منها الكثير ويحرق ما تبقى , لينجو من كُتب له النجاة في تلك الليلة العصيبة المرعبة , لحكمة يريدها الله ..
تم نزوح المهاجرين "الثالث" من مخيمات الأغوار إلى مخيمات قريبة من عمان العاصمة , وسميت حينها "حرب المخيمات" ونزحنا معَ النازحين , واستقر بنا القرار في مخيم البقعة , وعلى امتداد 20 سنة ونيف كان "مخيم البقعة" أكبر ساحة من الطين والوحل لربما في العالم , تم بناء الخيام لعدة سنوات ولأكثر من جيل من الخِيام , وأخيرا اُسْتبدلت "ببراكيات" من "الأسبستوس" والألمنيوم والصفيح , وتم "بإذن الله سبحانه" السماح لأهالي المخيم ببناء بيوت من "البلوك" "واللبن الاسمنتي" والمونة الإسمنتية المسلحة , حتى أصبحت مخيمات اللجوء والشتات اليوم ؛ تحمل مقومات المدينة والمدنية العصرية , ولكن بنكهات الهجرة والمهاجرين , وحُفرَ في كل أركانه , وميادينه وصروحة , وليستقر في قلوب أهلها الإيمان المطلق بأن "العودة حق ودونها الباطل" ..
لم تتوقف الحياة أبدا مهما قست الظروف وتبدلت الأحوال , إنها إرادة الله سبحانه , من بين خِيام الشتات أضاءت الشموع وتفتحت الورود العلمية والحِرفية , وكان من بينها المتفوق والمعجزة ؛ وأعلى الدرجات العلمية , وكذلك إلى جانب التفوق العلمي والمعرفي والأكاديمي ؛ كان التفوق الحِرفي والعمل والتجارة ؛ التعليم والثقافة والشعر والآداب ؛ وكذلك الصحافة و الإعلام , ونتابع تحول مضارب خِيام المهاجر الفلسطيني إلى مدنٍ متكاملة الخدمات , ومراكز علمية نشرت أشعتها في المحيط الوطني وعبر الحدود الدولية , في أرجاء الوطن العربي الكبير , وتَعدّتْ لتصل أغلب قارات العالم , ولو فتحنا صفحة أسماء الشركات التجارية والصناعية والتعليمية والخدمية المتفوقة في العالم , والتي انطلقت تحث الخطى على تحدي الاحتلال الصهيوني الغاشم الزائل بإذن الله , وسنجد أسمائها بعشرات الصفحات ..ولتأكد أيضا على عقيدة النصر القادم بإذن الله ":: وأن العودة حق :: ودونها الباطل::" ..
حُفر تاريخ فلسطين وقضيتهِ في ذاكرة التاريخ الإنساني والسياسي والعسكري , لتصبح القضية الأولى في الإعلام والصحافة والمحافل الدولية الأكاديمية منها والسياسية , وحتى أن المقاومة المسلحة في "غزة العزة" اليوم ؛ تفرض على المحتل معادلات صعبة تتحدى استمرارية وجوده , وتأكد أن لا مستقبل لمحتلٍ لأرضنا بإذن الله ..
لم يُفرْق الاحتلال بين تاريخ الشرق الإسلامي , وبين ما آلت له أحوال الهنود الحمر في "أمريكا" , فلاسفة الاحتلال ومفكريه اعتقدوا سفاهة منهم صناعة نفس النتائج , لم يدرسوا تاريخ الشرق بحياديةٍ علميةٍ , ولربما اختصروا على شعبهم وشعوب المنطقة هذه الحروب العبثية الظالمة وما خلفته عليهم من ويلات , ولله سبحانه حكمته التي لم نطَّلِعَ على علم الغيب عنده ؛ "لقد غابت عن أذهان مفكريِ الاحتلال رغم أكاديميتهم الضخمة ؛ عمق حقائق تاريخ الشرق الإسلامي" وقد وصفهم الله سبحانه أنهم "لا يفقهون " "لا يعقلون" "لا يعلمون" , وحقائق التاريخ أخْبَرتنا ؛ أن الشرق شهد كثيرا من الغزاة وقد مروا من هنا , ولم يبقى من تاريخهم إلا آثارا وأحجار , ولن يكون مستقبل الاحتلال الصهيوني إلا النهاية والزوال بإذن الله ؛ كسلسلة من تتابع حقيقة تاريخنا الإسلامي الـمُشرّف ؛ والذي قدمنا للعالم ؛ أننا لربما سرنا فوق موج البحار بحارا ؛ وليعلم قادة الاحتلال لسنا المادة الصالحة لصياغة الهنود الحمر في شرقنا الإسلامي العظيم ؛ ولربما أغراهم مَن ْضَوُعف من قومنا ؛ فألقى عن كاهليه السلاح , وملَّ النضال والجهاد والكفاح ؛ ورضيَ من الحياة الدنيا بالقليل من متاعها الزائل ؛ ونأى بنفسه في كهوف التاريخ المظلمة .
نؤرخ لفلسطين وللعرب وللمسلمين ولأحرار العالم , مسيرة شعب أكد في كل منابر تاريخه ؛ إصراره على "المقاومة والممانعة حتى النصر والتحرير والعودة إن شاء الله" , وسنلقي الضوء في هذه المقالة على الجانب الحرفي في تاريخ المهاجر الفلسطيني من خِيام الشتات .. فقط على الجانب الفردي البسيط , لنعرف أن الله سبحانه له حكمته المعروفة والغامضة في كل أحداث التاريخ البشري , لا إله إلا الله محمدا رسول الله ... لنعلم نحن والأجيال القادمة ؛ بحتمية النصر كما وعد الله سبحانه , وليعلم قطعان الاحتلال , لا مستقبل لهم في أرضنا , أمام التحدي والمقاومة والممانعة والإصرار على الحياة من مهاجرين وصامدين , والعون والمدد من الله , وقد علمنا استاذنا "جميل بن عياد الوحيدي" صاحب المبادئ والفكر "الـمُتَدَيّن" والمتواضع , وهو يشرح درسه الذي لم يوقفه لحظة سقوط القذائف التي دمرت مدرسة "مخيم الكرامة" "في مرحلة حرب المخيمات" "1967-1968"وحينها قال :: " إن فهم حل مسائل الرياضيات والتعليم والتعلم والعمل لا يقل أهمية عن رصاص المقاومة ؛ ولذلك نرى الاحتلال يستهدف المدارس كما هو حاصل الآن " , لنفهم نحن وأجيال المهاجرين والمهجّرين القادمين غدا إلى الحياة , لماذا نُسطّر هذه الصفحات من تاريخ فلسطين الخالد..
ونتذكر اليوم شريحة من المهاجر "والمُهجّر" الفلسطيني "محمد الدوايمة أبا خالد " الذي عاش تلك اللحظات المرعبة في حركة اللجوء والمقاومة والتحدي والإصرار على الحياة , وممن أصروا على البقاء في المخيمات , فقط وخرجوا منها نحو القبور , ونأخذ شريحة الحرفيين , ونتشرف بأن نكتب عنهم , وكيف لا !!!!! والحياة اليومية ترتبط بمهاراتهم وحرْفتهم ؛ ارتباط اليد بالمعصم , وبجهدهم ؛ تم تحويل خيام الشتات إلى مدنٍ متكاملة , وبكل مقومات المدنية الحديثة , بنوا البيوت والمتاجر , أسسوا المهن الحرفية والمخابز , حتى أنهم أقاموا المصانع , وبنو مكان الخيام كل ما تعرفه المدينة العصرية بحرفية ومهارة واقتدار , حتى وصل "خُلُوّ" بعض المحلات الصغيرة إلى أكثر من "100" ألف دولار , ومؤكدين كل لحظة بعون الله وتأييده "أن النصر على الاحتلال مؤكد , وأن العودة إلى فلسطين حق ودونها الباطل "
هذه قصتنا مع الحرفيين البسطاء في مخيمات اللجوء والشتات ,نأخذ كمثال للتاريخ الفلسطيني خاصة والتاريخ الإنساني عامة صفحة سجلها مهاجر فلسطيني من مخيم البقعة الصامد , لنتسلل عبر حدود الزمان في صبيحة يوم السبت من ربيع سنة 2010م ؛ 24 نيسان ,حيث تتوقف مخابز حوض البقعة عن العمل , عمال وأصحاب 40 مخبزا وأكثر ؛ يتوجهون إلى بيت "مهندس الأفران ومبتكر أجيالها" , وفيلسوف عمال المخابز ونصيرهم , المهاجر الفلسطيني "البقعاوي" محمد الدوايمة ""أبا خالد", أغلقت المخابز أبوابها , توقفت الأيدي العاملة وتشنجت عن العمل , وتوقفت محركات الأفران "النصف آلية " , صَمتَ هديرَ نِيرانِها , وحضر الناس كعادتهم في الصباح الباكر إلى أفران الخبز البلدي الساخن الفاخر , ولكن كانت المفاجئة , لا خبز اليوم في الأفران , لا عمال ؛ ولا عمل ؛ ولا عاملين فيها , لم يتذمر أحدٌ في حوض البقعة من أردن الحشد والرباط ؛ بل عاد إلى بيته متأسفا مترحما , غير آسف على عدم توفر الخبز البلدي في ذلك اليوم الحزين , ولكنهم كانوا شديدي الحزن على مؤسس هذه الأفران ومهندسها البارع , ووزارة التموين الأردنية في "محافظة البلقاء" ؛ والصارمة في تطبيق أنظمة الأمن الغذائي من قبل موظفيها ومراقبيها , لم تخالف مخبزا واحدا على هذه المخالفة الشنيعة , وتصل حدود أحكامها إلى "700" دولار أو أكثر , ولربما هناك من تَوقْف عن العمل والحضور في كثير من مناطق الأردن ؛ عندما وصاله خبر "مهندس الأفران" "أبا خالد" , من "الرمثا وعمان" "جرش والمفرق ومأدبا " , وغيرها من المدن والقرى الأردنية , والتي وصلتها مبتكراتِه ومخترعاتِه المثالية ؛ والمتعلقة بالأفران وعمالها ومالكيها .. ولـِـمَا لا !!!! وهو الرجل الفيلسوف ؛ وصاحب المواقف الصارمة المدعومة بالأدلة والبيانات العلمية ؛ قبل أن يكون المبتكر والصانع الماهر لصناعة الأفران وأدواتها ..
"محمد الدوايمة" "أبا خالد" هو "محمد موسى بن جبرين جابر العداربة" فلسطيني المولد ؛ من أصول قريشية ؛ سكن أجداده قرى مدينة الخليل , مدينة نبي الله "إبراهيم" عليه السلام ؛ من مرتفعات "الدوايمة", حاصلا على الجنسية الأردنية , تَكْرمةً عزيزةً من الأهلِ وحكومتهم ؛ من أردن الرجولة والأشراف , عاش طفولته اليافعة وشبابه في "مخيم البقعة" , مقدما جهده واجتهاده وفلسفته لأهله وجيرانه ؛ ووطنه القومي والإنساني في هذا العالم , لتنتهي به ورْدِيَته من الحياة الدنيا يوم السبت من ربيع سنة 2010م , ومن مساء يوم الجمعة ؛ يتوسد يديه مطلا بنظرات مضيئة حزينة ؛ مِنْ وجهٍ مُنير , وكأنه يلقي خطابه الأخير , بوصية قبل أن ينام نومته الأبدية ؛ من ليلة رحيله إلى الله سبحانه وتعالى ؛ فقال :: " أَنـّي أَمامكمْ ذاهبْ , وأنتم لي حتماً لاحقونْ , نصحت لكم ما استطعت , لم أغِش ولم أكْذب , إنني أرى ما لا ترون , ولربما لقولي لم تصدقون , أنني أرى البساتين والمزارع والأشجار , فإني أرى ما لا رأت عين , ولا سمعت أُذنٌ , ولا خطر على قلب واحدا منكم , إلى جانب الأشجار والبساتين والأنهار مع قنوات الماء الجاري , أرى زرائب" البقر والأغنام ؛ التي حدثتكم عنها الكثير "بمللٍ" منذ شهور , فأنا عن ربي راضٍ , فأسأله أن يرضى عني ؛ ويرحمني ويغفر ذنوبي وزلّاتي يومَ الدين" ...., فطلب الماء , وشرب منه ما كان له من نصيب , وغط في نوم عميق , دون توجع ولا ألم على غير عادته من أمراض عديدة وجسيمة ألـمّت به منذ سنوات , ونام طوال ليلته دون أن يزعج مُمَرضِيه وخُدّامه في مكتبْ بيتهِ ومِضّيَافَتِهِ ؛ بعيدا عن المشافي والأطباء والممرضين , وفي صبيحة تلك الليلة ؛ وعلى غير عادته لم يصحوا لصلاة الفجر , ليثير الشكوك لدى أبناءه وزوجته وأخواته ؛ واللواتي لم يفارقن مناوبة لياليه منذ شهور , بين موته وإغمائه , فحَمله أبناءه إلى مشفى مدينة السلط العريق , حتى اجتمع عدة أطباء ممن عرفوه ؛ وسُعِدوا بتمريضه وتَطْبيبِهِ ؛وصحبته المحببة منذ شهور ؛ في إحدى غرف هذا المشفى العتيد , ليتأسفوا على فراقه , ويتأكدوا من وفاته , ويكتبوا تقرير رحيله الأبدي ؛ عن هذه الدنيا الفانية عليه "رحمة الله"...
شَيَّعهٌ أهْلهُ وأصدقاءهُ وأهلَ مهنتهِ وجيرانه إلى مثواه ؛ في المقبرةِ الجديدةِ في "موبص" , ليتوسد التراب هناك , برسمٍ موسى بالأرض , يحكي قصة "أبا خالد" , قصة يافعٍ هاجر من فلسطين , ليستقر به قرار مهنته , متربعا على عرش هندسة الأفران , وفيلسوفا لمهنتِها , تاركا من المخترعات والوسائل والأدوات ؛ وفي مقدمتها مجموعة من الأصول والمبادئ والتشريعات ؛ التي تربط الحرفي بمهنته , ومن الأدبيات التي تَحفظ لِكُلِ ذي حقه حقوقه , سواء عاملٍ أو صاحبَ عملٍ أو مُستَهلِك , حتى غدت أفران البقعة العديدة والعتيدة ؛ لا ينافسها إلا من كان مَثِيلها , وكانتْ فلسفلةْ "أبا خالد" تميل قليلا مع المهرة والحرفين والعاملين ؛مقارنة مع الأطراف الأخرى إذا لم تكن متضررة , كان في فلسفتهِ محقا عندما الأمْر يتعلق بالعمال , وهم الجانب الأضعف في هذه المهنة الصعبة والمرهقة , والتي روض من صعوبتها الكثير الكثير ؛ بابتكاراته وتطويراته العديدة , واختراعاته المبنية على أسس علمية وهندسية ؛ سواء في جودة المنتج ؛ وسهولة الإنتاج ؛ ونخص بالذكر ؛ توفير الطاقة الضخم , في أفرانه التي زادت توفيرا في استهلاك الوقود ؛ عن 60% في إنتاج الخبز , مقارنةً بالأفران الحجرية القديمة , أو خطوط الإنتاج الكبيرة والحديثة..
وفي هذا المقال نستنهض همم المهتمين من "معاهد علمية وجامعات ومعاهد" و"وزارات طاقة" و"وزارات صحة" ؛ ومراكز أبحاث وطنية وعالمية ؛ أن تكرم المرحوم "أبا خالد" وأبناءه , وكذلك أستاذه "أبا الفهد محمود اللحام" وأبناءه , بما يستحقون من تكريميات أدبية وعلمية , وتمنحهم الشهادات العلمية التي لها يستحقون ؛ وخصوصا بما تم توفره من وقود ومحرقات في الأفران , وتم استبعاد "الديزل" المضر بالصحة في انتاج هذه السلعة المهمة في غذاء الإنسان , والاستغناء عن العمل المجهد والمضر بصحة العاملين في هذه الأفران وكذلك المستهلكين .. على المعلم الأول وتلميذه النجيب "رحمة الله" ..
عليك رحمة الله "أبا خالد" لقد أثَرت جدلا في حياتك ومماتك , لقد أثرت العقول والفكر لتُأسس فلسفةً مميزة قدّْمت الكثير والإيجابي خصوصا في صناعة الأفران ومهنتها , ووقفت إلى جانب العاملين والعمال ؛ وكنت لهم نصيرا ومعينا , رغم أنها تتعارض مع مصلحة المستثمرين من أصحاب الأفران وكنت واحدا منهم , بل أول من امتلكها .. ولكنك سطّرت صفحةً مضيئة من صفحات تاريخ فلسطين الخالد , لتأكد من قبرك في مقبرة "موبص" "أن العودة حق ودونها الباطل ...
نقل "أبو خالد" مهنة الأفران وصناعتها ومهاراتها من أستاذه ومعلمه "أبا فهد محمود اللحام" والمعروف والشهير ؛ وممن برعوا في تطوير هذه المهنة وتحسينها في مدينتي "دمشق" "وعَمْان" ذات العراقة والتاريخ , بدأ "أبا خالد" حيث انتهى أُسْتَاذه "أبا الفهد محمود اللحام" وكلٌ له جهده واجتهاده فحولا مهنة المصاعب إلى مهنة المتعة والمنافسة , منافسة ممتعة بين عمالها وجودة إنتاجها المميز في الشكل والمضمون ؛ وقف أبا خالد على قبر "اللحام" "رحمه الله "يترحم على روحة ويشكر الله سبحانه أستاذه , وكأنه يعاهد الله عند قبر "معلمه أبا الفهد" على مواصلة الطريق , والحمد الله كان , فطور "أبا خالد" من أدوات انتاجها وماكيناتها , بسّطها وبَالغْ , مبتعداً كل البعد عن التعقيد والكلفة المرتفعة , ليستطيع أي "مهني , وحرفي" مهما كانت إمكانياتُه أن يمتلكها , والعمل عليها مهما ضعفت قوته ومهارته , حتى غدت أفرانه وأدواته منتشرة في القرى والمدن الأردنية , وأبعد من ذلك لتتعدى حدود "سايكس بيكوا" , وتتحدى حرسه وحُرّاسه "لتصل الجزيرة العربية" , لتقوم هي الأخرى تصديرها إلى العالم , حتى أننا وجدنا مخترعات "أبا خالد" في أقصى الغرب المصري في مدينة السياحة العالمية , "مرسى مطروح" على شواطئ البحر المتوسط من القارة الأفريقية السمراء ..
لقد استطاع هذا الرجل البسيط في حياته ومظهره , والعميق بفكره وفلسفته "أبا خالد" المهاجر الفلسطيني البقعاوي , أن يؤسس مدرسةً مهنيةً فكريةً تحتوي على الكثير من البساطة والسهولة واليسر , فلسفيةً يَبني عليها أسس مهنته وصناعة أدواتها وألاتها للحرفيين والمهنيين , وبفكرهِ وفلسفتهِ العميقة , كان التوقف عن العمل بأدواتها القديمة المجهدة , وفورا البحث عن البدائل البسيطة والمريحة , كمثال :: استعمال "طرحة الإسفنج الخفيفة " بدلا من الطرحة الخشبية الثقيلة ويدها الخشبية الطويلة "الزانة" , والتي كانت تحتاج إلى مجهود كبير لا يحتملها إلا الأقوياء من الرجال , وكذلك تحتاج مساحات أكبر في أماكن الإنتاج , ويتبنى من الأدبياتِ الإنسانيةِ الرائعة وهي :: "الوقوف مع الضعفاء ضد الأقوياء" "الوقوف إلى جانب العمال أكثر من وقوفه مع المستثمرين ورجال الأعمال في هذه المهنة " وأن يحافظ على مهنة صناعة الخبز "النصف يدوية" أمام خطوط الإنتاج والأفران الكبرى , ويُوفْر الخبز البلدي ذو الطعم المميز للملاين في هذا العالم الذين يعشقون الكلاسيكية في طعامهم وشرابهم ؛ هنا نفهم هذه العفوية في الإضراب عن صناعة الخبز وأكله يوم وفاته ورحيله إلى الله ؛ ونفهم لماذا وزارة التموين الأردنية سامحت المخالفين لقوانينها الصارمة ولأهميتها في الأمن الغذائي في ذلك اليوم الحزين ...
في سوريا الحضارة والتاريخ فقدت المخابز البلدية دورها وأهميتها أمام منافسة المخابز الآلية وخطوط الإنتاج الضخمة ,ولم تجد هناك من يصون تراثها ويهتم بمستقبلها أمام تحديات رأس المال بخطوط انتاجه , رغم أن المهنة ترعرعت هناك , وخصوصا أن أستاذ المهنة الأول "أبا الفهد محمود اللحام" قد ترك دمشق واستقر في مدينة عمان العاصمة الأردنية ذات السحر والدلال والجمال , تراجعت المهنة هناك ويشرق تاريخها في ظل الأردن المتنامي في التطور والاقتصاد , بدأت ظاهرة المخابز الآلية الضخمة تنتشر في الأردن بمخبز "رأس العين" في العاصمة عمان , فأحس "أبا خالد" خطورة هذه الظاهرة , تهدد فرنه المتواضع والشهير في مخيم البقعة , وتهدد المئات من عمال المخابز الصغيرة سواء في الأردن وخارجها , وقف "أبا خالد" أمام فرنه وعُمّاله , ويتساءل حول ما ستؤول إليه هذه المهنة التراثية العريقة عندما تصل إلينا أيدي أصحاب المال وبمخابزهم الآلية وخطوطهم العملاقة في الإنتاج , ويتحسر على تلك الحالة المحزنة القادمة لا محالة , فأمعن النظر يُمنة ويُسرة , ورفع يديه إلى السماء وقال "يا رب لك نشكو ضعفنا وقلة حيلتنا , العون منك يا رب على الصمود والتوفيق" , وقال :: قبل أن نطور أدوات الإنتاج لا بد من تطوير الخبز البلدي نفسه , حتى يقف المستهلك إلى جانبنا في معركة التحدي , لنكسب مهنتنا ونحافظ على وظيفة العمال في مخابزنا , وغدا "أبا خالد" مهندسا للخبز البلدي الفاخر وأدوات إنتاجه , وبشهادة مستهلكيه وأذواقه , أن هذا الخبز البلدي المطور من قلب مخيم البقعة الصامد , من أفضل ما أنتجت الأفران في العالم , وكُتِبتْ التقارير العديدة "صحفية ومتلفزة" حول الخبز البلدي البقعاوي المميز , ودون الإشارة إلى مهندسها ومبتكرها , وهذا لم يكن يثير حفيظة مهندسنا المتواضع "أبا خالد" , طالما أنه حقق هدفه ومبتغاه في خطوات نحو النجاح , ومع شريكه "أبا الهيثم" تفوقوا في بناء الأفران الحجرية القديمة في داخل البقعة والقرى المحيطة حتى انتشرت في أرجاء القرى والمدن الأردنية , وتوقف المستهلك عن شراء الخبز الآلي متدني الجودة ؛ بدليل نجاح أغلب الأفران الحجرية التي بناها "أبا خالد" وشريكِهِ , بعد هذا النجاح الكبير فيما أراد , وذاعت شهرة "أبا خالد" الحرفية في صناعة الخبز البلدي وأفرانه العديدة في القرى والمدن الأردنية , فكان لا بد من تطوير أدوات الإنتاج "وآلاته" التي تتناسب مع هذا النوع الفاخر من الخبز البلدي الرائع , والذي تعجز خطوط الإنتاج على منافسته , فأراد أن يجمع بين المهارة اليدوية والحرفية وميكانيكية الإنتاج "النصف يدوية" بأفضل مُنتج , بأقل جهد ممكن , وبأقل كلفة ممكنة , وبأبسط الأدوات والآلات , وكان له ذلك والحمد لله .
رفض المهندس المخترع "أبا خالد" فلسفة الاحتكار وتجيير الإنتاج إلى أصحاب رؤوس الأموال , لأن ذلك يضر بمصلحة الحرفيين , اتخذ هذا الموقف رغم أن هذا التفكير يضر بمصلحته الشخصية أيضا , وجعل العلاقة مباشرة بتقديم التسهيلات لمن أراد امتلاك أدواته ومنتجاته المبتكرة , يبيعها بالتقسيط قريبا جدا من كلفة الإنتاج , فقط بهامش ربحي متدني ؛ وبدون كفالات كافية لحفظ حقوقه , مما أثّر إيجابيا على نشر مخترعاته ومنتجاته , ولكنها أثرّت سلبيا على فوائده وعوائده , مما جعل "أبا خالد" ينام قرير العين نوما مريحا ليلة وفاته "عليه رحمة الله" , وفارق الدنيا دون أن يملك من حطامها شيء , إلا من بنات مستورات في بيوتهن وأحفاد , وأبناء أوفياء تلاميذٍ لمهنته ومهرة في صناعتها ,أعانهم الله سبحانه على الوفاء بديونه وما عليه من حقوق ولله الحمد ..
فارق مهندس الأفران وفيلسوف المخابز دنياه المتواضعة , ومشغله المتواضع مع مكتبه الذي لم يتجاوز فراش نومه , فارق الدنيا كغيره من المخترعين والمبتكرين ورجال الفكر والمبادئ دون أن يتركوا للورثةِ ما يختلفون عليه , بل مضيفا إلى رصيد ورثته السلبي بضعة ألاف من الدولارات كديون , بل تكاليف عزاءه الكبير والحتمي لاستقبال أحبابه وأصدقاءه الكُثْر , زاد عن "10" الاف دولار أيضا ديونا على ميراثه المادي , ولكن ما تركه من إرثٍ فكري ومهني وأخلاقي تشرّبه أبناءه وتلاميذه وأبناء مهنته ما عوض الكثير عن أرثه السلبي المادي , فارق "أبا خالد" دنياه ليلحق ببصره ونور عينيه الذي سبقه إلى هناك منذ "12"سنة , وتبعه قوته الخارقة التي عرفها الكثير , وشاهدها أقرانه برفعه السيارات والشاحنات الصغيرة بيديه من الحفر الطينية التي تسقط بها والتي كانت منتشرة في "مخيم البقعة", نعم فقد بصره ولم يفقد بصيرته , فقد قوته وحركة أطرافه ولم يفقد عزيمته واستمرارية مكتبه المتواضع بحضور عشرات المحتاجين إلى هندسته في حل المشاكل وتذليل الصعوبات , كان مكتب أبا خالد ومضيافته في مكتبه على أطراف "مخيم البقعة" في بيتٍ مستأجر , كان يتسع للعديد من أضيافه وزوّاره ؛ من أقارب وأصدقاء , والعديد من أهل مهنته ؛ حيث كان يعمل مستشارا مجانيا لكل من يحتاجه , كانت هندسته العلمية وأفكاره الصناعية تجذب المهنيين والمهندسين والأكاديميين سواء , وحتى عُرف أبا خالد من جميع المهتمين بمهنته من جميع أطياف المجتمع الأردني , وزاروهُ في مرضه الذي كابده لعدة سنوات من جميع القرى والمدن الأردنية , ولم يوقفه مرضه عن العمل "بل كان تفكيره في هندسته وفلسفته أكثر من تفكيره بمرضه" , ومكوثه الطويل في مكتبه وفر له الوقت الكافي ليضع اللمسات الأخيرة على مخترعاته , وكان يتبادل الأفكار بأريحية وعصبية أحيانا دفاعا عن رأيه المدعوم بالأدلة الرياضية والعلمية , ويزيدها دعمها بتجاربه الجريئة والمكلفة العديدة , ويوظف معرفته العلمية في تصميماته باقتدار ..
خالف أبناء المرحوم "أبا خالد" فلسفة أبيهم في التسهيلات المريحة , وأضافوا إلى منتجاتهم خطوط الإنتاج التكنلوجية المتطورة في صناعة الأفران , لتواكب متطلبات المرحلة الحضارية الحتمية للتطور , مما أعانهم على سداد ما ورثوه عن أبيهم من ديون بسهولة ويسر ولله الحمد ..
أبناء المرحوم أبا خالد أكملوا مسيرة والدهم في المهنة , وخلال السنوات الثلاث بعد وفاته "رحمه الله" , أثبتوا جدارتهم ؛ وأنهم على قدر كبير من المسؤولية في الاستمرار في صناعة أدوات الأفران وآلاتها وتطويرها وتحسينها , وما أنتجوه في هذه الفترة القصيرة ؛ يثبت أن شركتهم الصناعية ؛ لها القدرة على المنافسة الصناعية المتميزة ؛ وستحمل على عاتقها شرف المهنة وأصولها بإذن الله سبحانه وتوفيقه , وفقهم الله "جل جلاله" لما يحب ويرضى ..
لم تتوقف صفحات التاريخ الفلسطيني بمغيب شمس فارس , مهما كان موقعة في تاريخ القضية الفلسطينية , سياسيا مهنيا أكاديميا علميا أو إعلامي ,"عليهم جميعا رحمة الله" إلا وهناك مِنْ خَلْفَ الأسودِ أشْبَال , وخلفَ الأكمةِ مفاجئات تحمل مشعل القضية الفلسطينية في جميع مناحي الحياة , سواء في المهجر , أو الصامدين على أرضهم وجراحهم , إلى أن يتحقق ما أراد الله سبحان ؛ في وعْدهِ ووعيدهِ للظالمين الصهاينة المحتلين ومَنْ عاونهم , والنصر والتمكين للمستضعفين في الأرض , ليري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ...وبهذه الصفحة من تاريخ فلسطين , نؤكد أن كل مرافق حياه أهل فلسطين النازحين والصامدين ؛ تأكد أن الاحتلال إلى زوال , وتُصِرُ أن العودة َحقٌ ؛ وأن النصرَ قادم ؛ ودونها الباطل ..
وآخر دعوانا أن الحمد لله , وعلى رسولنا الصلاة والسلام ؛ وعلى أله وأصحابه ؛ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم َ الدين ..
 
رد: من التغريبة الفلسطينية.. مُهنْدسَ الأفرانِ وخَبِيرَ المخابزِ وفَيْلَسُوفِها؛ في ذمة الله

رحم الله شهداء وشباب فلسطين وشهداء الامه العربيه كله
 

nour_nono

كاتب جيد
جزاك الله خيـر

بارك الله في جهودك

وأسال الله لك التوفيق دائما
وأن يجمعنا على الود والإخاء والمحبة
وأن يثبت الله أجرك
ونفعا الله وإياك بما تقدمه
 
أعلى