يوميات مــن حياة ناقـد أدبــــــي

البراء111

كاتب جيد
يوميات مــن حياة ناقـد أدبــــــي


يمد يده إلى جســدالكتاب كما يمد يده إلى جسد غنيمة ، يقلبه بين يديه ، يمرر صفحاته بين أصابعه ،يقرأ سطرا ، سطرين ، ثلاثة سطور . وينظر في وجه صاحب المكتبة ، يتقدم إليه والكتاببيده ككنز ثمين ، يسأله عن السعر ، يجيبه صاحب المكتبة ، يشعر بشيء من إحباط ،يشكره ويعيد الكتاب إلى موضعه وقد علت حنجرته غصة ، لكنه يواسي نفسه بأن بدايةالشهر ليست بعيدة وعندها سوف يقبض راتبه وأول شيء يفعله هو أن يتجه على الفور إلىهذه المكتبة لاقتناء الكتاب . في بداية الشهر يتناول راتبه وذهنه شارد في الكتاب ،يهرول نحو المكتبة ويمد يده إلى الكتاب ، يتقدم من صاحب المكتبة وينقده القيمة . للتو يشعر بفرح غامر ، لقد أصبح الكتاب ملكا شخصيا له ، يمكن أن يضمه إلى مكتبتهالعامرة التي بناها كتابا كتابا ، شهرا شهرا ، المكتبة التي طالما أنقذته من أمواجاليأس التي كانت تجتاحه خلال كل سنوات العزلة والوحدة ، كان يلجأ وهو في ذروة اليأسإلى صيدلية مكتبته فيمضي ساعات حتى ينسى نفسه ويخف عنه اليأس ، وكم من مرة أنقذتهالمكتبة من الانتحار ، من الشعور العميق بالعدم ، كانت دوما تخفف عنه آلام الروحوتقدم له العزاء , وتقدم له المسرة إلى درجة أنه أحيانا كان يرقص طربا وهو يقرأويستمع الموسيقى في هذه المكتبة المغلقة .

هاهو يخرج من مكتبة المدينةوالعالم لايتسع حبوره بهذا الظفر الثمين ، وقبل أن يصل البيت يعرج إلى مطعم فيأخذطعاما شهيا ، ثم يأخذ شرابا لذيذا حتى يحتفي بهذا الكنز الثمين الذي استطاع أن يحصلعليه . في الطريق إلى البيت وهو في سيارة الأجرة يضع كل مابيديه جانبا ولايفوته أنيتأمل مرة أخرى ظاهر هذا الكتاب ، يتأمل عملية إخراجه ، ينظر في اللوحة واسم راسمها، ينظر في عدد الصفحات ، ثم يلقي نظرات شوق فائضة إلى أجساد الكلمات فتتحول أمامناظريه إلى حياة كاملة ، وعندها يرى بلبلا يحط على شجرة خريف وهو ينظر في حرف / أ / ثم يرى هذا عصفورين ميتين جوار حفرة وهو ينظر في حرف / ص ٍ / وتتحول الكلمات إلىمناظر والسطور إلى دروب والجمل إلى بحار وأودية وجبال . يعود إلى حيث يجلس عندمايشير إليه السائق بأنه وصل البيت ، يناوله الأجر ويدخل البيت ، يتناول طعامه وشرابهويأخذ قسطا من الراحة فتتهيأ كل ذرة فيه نحو تلقي صفحات أولية بمتعة بالغة . إنهيحافظ على حميمية العلاقة بين ذراته وذرات النص ، بين حواسه وحواس النص ، يتناولصفحات معدودة وينصرف إلى شأن آخر ، في اليوم التالي يأتي إلى صفحات أخرى ، يغير أوقات تلقي النص، في الصباح الباكر قبل ذهابه العمل بساعة ، في وقت قيلولة الظهيرة ،قبل النوم ، في وقت النوم والسهر حتى الشفق ، وينام معه الكتاب في الفراش ، يستيقظمعه صباحا ، يتحول إلى الزوجة تارة ، يتحول إلى الأولاد تارة أخرى ، إلى موائد سهرعامرة بالأصدقاء ، إلى مستقبل . تشرق عليه شمس النص ، ويهبط عليه ظلامه وهو يشعربلذة روحية بالغة وهو يتناول الحروف والنقاط وعلامات الترقيم والإشارات والسطوروالجمل ، تشرق روحه أمام إشراق النص البهي ويتذكر تلك النصوص التي لم يستطع الوصولإلى صفحاتها العشر الأولى بسبب فقدانها لأي نكهة أو لذة تشجعه للاستمرار، خوائها منأي ومضة إشراق ، أو لحظة حياة ، من عصفور أو حمامة أو جدول أو سمكة . وعندها يكيلعباراته الخاصة التي حفظها لكاتب هذا النص ويقسم ألا ّ يقرب من اسمه حتى لو رآه فيصحيفة عابرة .



هاهو النص الثري الذي يضيء ويظلم العالم ، الذييزلزل الحواس ، ينعش الروح ، ويُجري الدموع من العينين ، النص الذي يجعله يقهقهبأعلى صوته ، يصمت بأعلى صمته ، يخشع بأعلى خشوعه ، هاهو النص البهي الذي يبدل أحولالنفس كما يبدل الزمن فصول السنة .

إنه فنان يعرف كيف يقود الكلمات إلىالأراضي الخصبة والينابيع العذبة الرقراقة كما يفعل الراعي الماهر ، يعرف كيف يمديديه إلى ثدي الكلمات ليستخرج حليبها ولبنها وزبدتها وقشدتها ويقدمها في أطباق شهية . ياله من فنان ماهر هذا الذي أبدع هذا النص المذهل ، لابد للمرء أن يقتني أي شيءيراه لهذا الكاتب حتى لوكان في صحيفة عابرة .

ينتهي من القراءة الأولى ، ثميختلي بنفسه يتأمل في كل مابثه إليه النص ، ويعود إليه كرة أخرى . يفرغ من السطوعالثاني الذي يكتشف في محرابه مالم يكتشف في السطوع الأول ، ويخرج من محراب الكلمات، ينتظر حينا . ثم ينظر في أمر إعطاء هذا النص الثري حقه من النقد . يرتدي ثيابالعوم في منتصف الليل ويقذف بجسده في مياه النص ويغوص في أعماق مياهه العذبة ، ثميخرج ويعكر المياه , ويغوص فيها وهي عكرة ، ثم يخرج ويغوص فيها وهي راكدة ، ثم يخرجفيغوص فيها وهي صاخبة هائجة .

إنه مع كل سباحة وغوص في لون وشكل يستخرج مالم يستخرجه من قبل ، ويأتي بصيده الثمين بعد كل هذه المراحل ، يشعر من جديد بأنهانفتح على النص مرة أخرى وانفتح النص عليه مرة أخرى . ينظر في قلمه وفي الصفحةالبيضاء ويباشر في عمله
 

LEGENDS

كاتب محترف
رد: يوميات مــن حياة ناقـد أدبــــــي

عزيزي و انا كذلك غصت في ما طرحت و سوف امسك ورقتي البيضاء و اكتب ان النقد البناء يحسن من الكاتب و يجب ان يكون هذا النقد بعيداً عن اي طائفية او حقد او غل في قلب هذا الناقد الادبي ، و ما يزال يلتهم و يكتب و ينعت و يعطي حتى يستقيل ذلك الكاتب عن اطروحاته ، و في المقابل ناقد آخر يوصل ملاحظاته بصورة جميلة و رقيقة تجري على القلب كالماء العذب يتقبلها الكاتب و يعمل بها .


ملئ السنابل تنحني تواضعا و الفارغات رؤوسهن شوامخ






كل الشكر لك عزيزي البراء ، جميل ما قدمته لنا من فطور لصباحي الادبي معك
 

مواضيع مماثلة

أعلى