نظرات في بحث العرفاء ونظرية المعاينة في فهم النص الديني

رضا البطاوى

كاتب جيد جدا
نظرات في بحث العرفاء ونظرية المعاينة في فهم النص الديني
صاحب البحث يحيى محمد وهو يدور حول ما سماه بنظريتى المشاكلة والمعاينة وقطعا من يقرأ أى بحث فلسفى لابد أن يتوه فيه لأن تلك المعلومات تتطاير هناك وهناك فينسيك أولها أخرها واخرها أولها
النظريتان في الأساس نظريات لغوية في موضوع واحد وهى الألفاظ التى تطلق على الله تعالى
الأولى تقول أن الألفاظ التى تطلق على الله في الوحى هى ألفاظ تطابق الواقع بمعنى :
أن إذا جعلت لله يد فهذا معناه أنعها يد حقيقية كيد الناس وإذا جعلت لله وجه فهذا معناه أن لله وجه جسدى كوجه الناس
الثانى تقول أن الألفاظ المطلقة على الله في الوحى والتى تعنى في كتب اللغة أعضاء جسدية أو أفعال جسدية ليست ألفاظ حقيقية وإنما تلك الألفاظ لها معانى مختلفة في الله
قطعا من أوقع هذا الجدال هى الفهم الخطأ لكتب اللغة فكلمة يد في الكتب مثلا تطلق على اليد بمعنى الكف أو الكف ومعه الذراع أو تطلق على المعروف أى الجميل كما تطلق على القوة ..
ومع هذا تجد من فهموا خطأ أو انشأوا المشكلة يتركون كل المعانى ويتشبثون بالمعنى الجسدى
بالطبع تلك الكلمات وضعها له معيار واحد وهو قوله تعالى :
" ليس كمثله شىء "
ومن ثم لا يجوز تشبيه الخالق بالخلق ولا الخلق بالخالق
وأما العرفاء فهو مصطلح يطلقه الشيعة على الصوفية وهو موجود عند السنة في كلمة العارف بالله فلان أو علان وبالقطع هم من أبعد الخلق عن معرفة دين الله
هذا هو خلاصة البحث قبل الحديث عن تفاصيله والتى سوف يتوه بعضنا فيها
وقد شرح يحيى محمد نظرية المشاكلة بأنها تشبه نور الشمس الذى يقوى ويضعف حسب البعد كما يقال فالضعف والقوة فالحقيقة واحدة ذات دلالات متعددة وهو قوله :
"يمكن اعتبار ابن عربي ابرز من يمثل نظرية المعاينة وسط العرفاء. والتعرف على طريقته يعود بنا الى التذكير في طبيعة الاختلاف الذي ساد بين الفلاسفة والعرفاء حول فهم التنزل الحاصل في الوجود. اذ تعتمد الطريقة الفلسفية في تصوير علاقة المبدأ الحق بغيره على الوسائط من الرتب الوجودية، مثل تنزلات نور الشمس وضعفه شيئاً فشيئاً عندما يصطدم بعدد من الحواجز كالقمر والمرآة والجدار وغير ذلك، فرغم ان حقيقة النور واحدة الا ان لها مراتب مختلفة من الشدة والضعف، وكذا هو الحال في علاقة المبدأ الاول بغيره من الموجودات، حيث الحقيقة المشتركة بين الجميع واحدة الا انها تختلف من مرتبة لاخرى.
وهذا الاشتراك في الحقيقة الواحدة هو ما أكدت عليه نظرية المشاكلة، فرأت ان ما ينطق به النص من الفاظ له حقيقة واحدة ذات دلالات متعددة ومتفاوتة، على غرار ما في الوجود من المراتب المتعددة رغم وحدة الحقيقة فيما بينها. فوحدة الدلالة لظاهر النص مستمدة من وحدة الحقيقة الوجودية، وتعدد مراتب الدلالة وكيفياتها مستمد من تعدد مراتب الوجود وكيفياته، وبالتالي فان ظاهر النص والفاظه قد جاءت على شاكلة ما عليه الوجود الخارجي، مما يتسق ومنطق السنخية. "
بالقطع تشبيه الدلالات بنور الشمس الضعيف والقوى لا يعبر عن الحقيقة بدلالات مختلفة
وأما النظرية الثانية وهى المعاينة فهى تقصد أن الخلق هم الله والله هو الخلق وهو ما يسمونه وحدة الوجود والرجل يشببها بأن النور يرى من خلال ألوان الزجاج مختلف ولكنه واجد فقال :
"أما الطريقة العرفانية فأمرها مختلف، فهي تعتبر العلاقة بين المبدأ الحق وتنزلاته الوجودية ليست علاقة غيرية كالذي تبديه الطريقة الفلسفية، رغم تقارب النظريتين، اذ لا تعترف بوجود غير الحق، وان علاقته بما يطلق عليه الغير تمثل نسباً اعتبارية، وتقيدات تعينية تفرضها قوابل الاعيان الثابتة او الماهيات التي هي من حيث ذاتها ليست موجودة ولا شمت رائحة الوجود. فالحقيقة هنا واحدة، أما التعدد فهو يأتي بحسب التعينات واختلاف القوابل او الماهيات، مثلما يتضح في علاقة النور الملقى على زجاجات مختلفة الالوان، فلولا النور ما ظهر منها شيء، وان اختلاف الوانها هو بحسب ما هي عليه من طبائع مختلفة، لكنها تظل معدومة لا تظهر الا بالنور.
وكذا تظهر الاشياء بالحق وهو يختفي فيها، مع ان حقيقة الموجود هو ذاته لا غير، فكان الظاهر هو الخلق، والباطن هو الحق او مثلما يتضح في علاقة الفحم المجاور للنار، حيث يكتسب صفاتها عند المجاورة، وكذا هو الحال في تنور الخلق بنور الحق وحمل صفاته، وبالتالي فما من شيء يظهر الا وهو يحمل صفات الحق، فيكون بهذا الاعتبار حقاً متعيناً ومقيداً بقيده الخاص، فالحق هو الظاهر في الاعيان، وهو ذاته الذي اخفاها. او مثلما يتضح الحال في ظهور الصورة الواحدة في المرايا المتعددة المختلفة، حيث الصورة واحدة مع انها تظهر بمظاهر مختلفة تبعاً لاختلاف المرايا، وكذا ان الوجود واحد لكنه يتعين بتعينات مختلفة تبعاً للقابليات.
وسواء تتبع الطريقة العرفانية النسق الذي يبرزه مثال النور والزجاجات الملونة، او مثال الفحم المجاور للنار، او مثال الصورة في المرايا المختلفة، فالأمر هو هو من حيث ان للحق مظاهر وتعينات كلها تدل على ما له من حقيقة وجودية لها علاقة بتلك الاعيان التي لسان حالها طلب الظهور بحسب ما عليه قابلياتها واستعداداتها من غير زيادة ولا نقصان. وقد انعكس هذا التصور على فهم النص وطبيعة التعامل مع الظاهر تبعاً لما اطلقنا عليه المعاينة. اذ تصبح الفاظ النص حاكية لكل ما تصفه من الوجود وتعيناته ومراتبه وشؤونه الذاتية واسمائه وصفاته، سواء كانت حسية او غير حسية، وسواء كانت تشبيهية او تنزيهية، حيث الوجود يسع الكل، فهو المطلق الذي يتعين بالتعينات بلا حصر ولا حدود، وهو المشهود في كل مشهود، كما انه الغيب بحسب الذات المقدسة واسمائها ولوازمها من الاعيان الثابتة. فهذا هو الوجود، وذلك هو النص الذي يصور ما عليه الوجود في كافة مراتبه وتعيناته تصويراً عينياً ومطابقاً من غير تحريف."
ومن هنا جاء الخلاف بين الفلاسفة والعرفاء فالأوائل يجعلون الألفاظ المطلقة على الله جسديا في الوحى لا تعبر عن الحقيقة والأواخر يرونها عين الحقيقة وفى هذا قال :
"هكذا فانه اذا كان الفلاسفة يعولون في التنزل على المراتب الوجودية باعتبارها تشاكلات فيما بينها دون ان تمثل عين الحق، وعليها تأسست نظرية المشاكلة في التفسير والفهم، فان العرفاء اعتبروا هذه التنزلات تمثل الحق تبعاً لوحدة الوجود الشخصية التي تظهر بالوان واشكال مختلفة بحسب ما عليه الاعيان الثابتة من جهة، وبحسب ما عليه الحق الظاهر فيها، باعتباره يمثل عين الظهور الذي تظهر به.
فالمعاينة هي العين الظاهر في الوجود للحق، كما انها عين الاشياء من حيث ماهياتها واعيانها الثابتة، فليس في الوجود غير هذه العين الواحدة التي تطوي في جنبها تلك الاعيان. ومع اننا لا نجد تنظيراً لهذه النظرية وسط العرفاء، خلافاً لما لاحظناه في نظرية المشاكلة التي نظّر اليها الغزالي ومن بعده صدر المتألهين، لكنا مع ذلك نصادف الكثير من الشواهد التطبيقية الدالة عليها، لا سيما لدى ابن عربي مع الاخذ بعين الاعتبار انه سواء بخصوص الغزالي وصدر المتألهين، او ابن عربي وسائر العرفاء، فان كلاً من الجماعتين لم يلتزم بحدود الانضباط كما دلت عليه هاتان النظريتان، فقد ظهرت لديهما افاق اخرى من التفاسير المتعددة التي يغلب عليها انعدام الضابط ويلاحظ ايضاً ان صدر المتألهين قد لجأ - في بعض الاحيان - الى الطريقة التي دلّ عليها ابن عربي في نظرية المعاينة، فهو كلجوء الفلاسفة وانزلاقهم نحو النظرية العرفانية في وحدة الوجود احياناً.
وبحسب نظرية المعاينة فان للنص مرجعيته المعرفية المؤكدة، وان كل ما يظهر على الالفاظ في تصوير الوجود هو حق مطابق لا اختلاف فيه. فالنص عندما يضفي على الصفات الالهية صفات حسية فانما يعني هذا الجانب الحسي لا غير، وكذا عندما يبدي نفيه لهذا الامر انما يعني هذا النفي، بل وعندما يبدي الجمع بين المتضادين فانه يعني التضاد، وهو بالتالي يحكي ما هو الوجود ويصوره على ما هو عليه من غير زيادة ولا نقصان. وهذه هي المطابقة بين الالفاظ والوجود، كما هذه هي المحاكاة العينية بينهما.
فالنص بحسب هذه النظرية يتحدث عن المعنى الخاص الذي يصور فيه ما عليه الوجود إن كان حسياً او غير حسي. وبعبارة اخرى ان نظرية المعاينة ترى ان اللفظ بدلالته الحرفية الخاصة يعبر تعبيراً عينياً ومطابقاً للوجود الموضوعي. "
وذكر أمثلة من المنهج العرفانى الذى جعل الله تعالى عن ذلك هو نفسه المخلوق فقال :
وهناك الكثير من الشواهد التي توضح هذه الطريقة من الفهم بحسب الجمع بين الظاهر وما عليه القبلية الوجودية، خاصة فيما يرتبط بالاشارات التي لها علاقة بوحدة الوجود والاعيان الثابتة، ومن ذلك ما قام به ابن عربي في (الفتوحات المكية) من تفسير قوله تعالى: {يا ايها الناس انتم الفقراء الى الله} فاطر/15، اذ اعتبر الفقراء هم الذين يفتقرون الى صور الاسباب التي هي عين الله، او انه المتجلي فيها فهم اذن يفتقرون الى الله في كل شيء، وليس الى غيره حيث لا وجود للغير، طالما ان الله ظاهر في كل شيء او يمكن القول طالما ان الناس يفتقرون الى صور الاسباب ومنها الاسباب الطبيعية، وكذا طالما ان النص القرآني صريح بأن الناس يفتقرون الى الله، فعليه تكون النتيجة ان الناس في كل ما يفتقرون اليه هو مسمى الله.
كذلك اعتبر ابن عربي في (فصوص الحكم) ان معنى قوله تعالى: {وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى} الانفال/17؛ له دلالة على ان الله رمى بصورة محمدية فهذه الصورة هي عين الله في احد تجلياته وهذا الاستظهار يثبت الرمية لله وللنبي كما هو ظاهر في النص، لكن حيث ان صاحب الرمية بالحس هو النبي لا غير، لذا فأمامنا ثلاثة فروض، وهي ان الرمية إما تكون معلقة بكليهما على سبيل التفكيك والاستقلالية؛ كإن يكون الرامي من حيث الحس هو النبي ومن حيث الغيب غيره او الله، او انها تكون عائدة الى واحد منهما مع ابطال الاخر، اي إما ان الحس صادق فتعود الرمية الى النبي فحسب، او انه كاذب فتعود الى الله فقط. أما الفرض الاخير فهو ان الرمية تتعلق بهما على سبيل التوحيد من غير تفكيك واستقلالية، وهو الفرض الذي تقره القبلية العرفانية، فتكون النتيجة من حيث الباطن هي ان الله رمى بصورة محمد كأحد التجليات الالهية، استناداً الى وحدة الوجود.
ولا يختلف الامر مع نصوص قرآنية اخرى تربط بين علاقة الشيء بالنبي وعلاقته بالله، ومن ذلك قوله تعالى: {ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله} الفتح/10، وقوله: {من يطع الرسول فقد اطاع الله} النساء/80، حيث المآل واحد وهو ان الله متعين بحسب الصورة المحمدية. بل كان من الميسور ان يُستظهر المعنى الحرفي للحديث النبوي القائل: من رآني فقد رأى الحق فبحسب هذا النمط من الاستظهار تكون رؤية النبي هي عين رؤية الله، ومن حيث ان هذا الاخير متعين بالصورة المحمدية مثلما انه متعين بغيرها من الصور، فهو عين النبي، لذلك فمن رآه فقد رأى الله."
بالقطع القوم فسروا اللفاظ على هواهم لأن هناك آية تفسر كل هذه الأمور وهى :
" وما تشاءون إلا أن يشاء الله "
فعمل الإنسان حدث في نفس الوقت الذى خلقه فيه فمثلا يبين الله للمؤمنين أنهم لم يقتلوهم أى أنهم قد ذبحوا الكفار وفسر هذا بلكن الله قتلهم أى إن الرب ذبح الكفار فقد حدث القتل من المؤمنين فى الوقت الذى شاءه الله والمقصود خلقه الله مصداق لقوله بسورة الإنسان"وما تشاءون إلا أن يشاء الله" ،ويبين الله لنبيه (ص)أنه ما رمى إذ رمى والمراد أنه قد قذف بسلاحه الكفار وقت خلق الله للقذف وفسر هذا بأن الله رمى والمراد بأن الله قذف أى خلق القذف فى نفس الوقت مصداق لقوله بسورة الإنسان"وما تشاءون إلا أن يشاء الله"
وتحدث عن اختلاف الفريقين ضاربا مثال بأن الفلاسفة قالوا أن العرفاء رأوا أو صورة الشىء في المرآة هى حقيقته وليس مجرد خيال فقط فقال :
"مع ان هذا الحديث قد وجد تفسيراً اخر بحسب نظرية المشاكلة بعيداً عن وحدة الوجود الخاصة لابن عربي، تبعاً لمشاكلات الوجود، كالذي يبديه صدر المتألهين ومن قبله الغزالي، والمعنى بحسب هذا التفسير هو كون النبي (ص) عبارة عن مظهر من مظاهر الذات الالهية، حيث انه مثالها الاعظم، ولذلك فمن رآه فقد رآى الحق استناداً لهذا النوع من المشاكلة، فمثله كمثل الذي يرى الصورة في المرآة ويظنها حقيقة الشخص لا صورته ونفس الشيء يمكن قوله حول ما ذكرنا من النصوص القرآنية."
وحدثنا عن قضية لغوية وصل منها ابن عربى لكون الصورة هى نفس الحقيقة فقال :
" ويصل ابن عربي في (الفتوحات المكية) الى نفس هذه النتيجة، وذلك من خلال ما يستعرضه من قضية البدل.
ففي الصنعة العربية هناك ما يطلق عليه بدل الاشتمال مثل ان تقول: اعجبني الجارية حسنها، واعجبني زيد علمه، حيث ان الحسن بدل من الجارية، والعلم بدل من زيد كما هناك بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، مثل ان تقول: رأيت اخاك زيداً، فزيد اخوك واخوك زيد ومنه يفهم بدل الشيء من الشيء، وقد يكون هذا البدل بصورة التبعيض، كما في الاية {وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى} المشار اليها سلفاً، اي بدل البعض من الكل، مثلما يقال: أكلتُ الرغيف ثلثيه والمعنى واضح من حيث ان الحق لا يتجلى في تلك الصورة المحمدية في رميها فحسب، بل له الاطلاق. وعلى هذه الشاكلة يفهم معنى قوله تعالى: {تجري بأعيننا} القمر/14، حيث ان مدير السفينة يحفظها، والمقدم يحفظها، وكذا كل من له تدبير في السفينة يحفظها، فهي بالتالي تجري باعين الحق وما ثم الا هؤلاء الذين يقومون بحفظ السفينة، فالحق مجموع الخلق في الحفظ. ومثل ذلك ما جاء في الحديث النبوي: .. كنت سمعه وبصره .. ، حيث ان الكل من عند الله {قل كل من عند الله} النساء/786 ومثله ما جاء في الحديث القدسي: جعتُ فلم تطعمني، مرضتُ فلم تعدني، ظمئتُ فلم تسقني
وهذا الاستظهار يمكن التعبير عنه بصورة من صور الاستدلال المنطقي المعتمد على الحس، وهو ان ظاهر النص القرآني مأخوذ به، حيث تجري السفينة بأعين الله، لكن تفسير ذلك يعتمد على القبلية الوجودية من خلال الاستعانة بالحس، فهذا الاخير يطلعنا على ان السفينة تجري وفق قبطانها ومن على شاكلتهم من الاسباب التي تهيء لها السير، وحيث ان الحس لا يمدنا بأكثر من ذلك، لهذا فمن حيث الباطن ان هؤلاء هم المقصودون بأعين الله، فهم يشكلون بعضاً من تجليات الحق في الوجود. ومن ذلك استظهار قوله تعالى: {كل شيء هالك الا وجهه} القصص/88، حيث لا وجود لغيره ازلاً وابداً، مثلما قيل: الباقي باقٍ في الازل والفاني فانٍ لم يزل 8. وقريب من ذلك قوله تعالى: {كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام} الرحمن/26، حيث وجه الشيء هو حقيقته وذاته."
بالقطع المسألة ليست لغوية ولا يمكن الوصول إليها عبر علم النحو الذى نشأ بعد نزول الوحى بقرون ولم يتفقوا فيه حتى ألان وحكاية أن لا وجود لسوى الله يتنافى مع قضية الخلق فلا وجود لخالق دون مخلوق تالى له في الوجود ولا وجود لرازق دون مرزوق تالى له في الوجود
كما أننا نجد تناقض عظيم في الوحى إذا فهمنا أن الخالق هو المخلوق فمثلا الخالق لا ينام " كما قال " لا تأخذه سنة ونوم "بينما المخلوق فى الوحى ينام كما قال " ومن آياته منامكم بالليل والنهار" فكيف يتم التوفيق بين نومه وعدم نومه إذا كان الاثنان واحد
ومثلا إذا كان الخالق لا يطعم بمعنى لا يأكل كما قال " يطعم ولا يطعم"فكيف يتفق عدم أكله مع أمره للخلق بالكل وهو الطعام" كلوا من ثمره "
إذا لا يمكن أن بيكون الوحى صادقا في حالة وحدة الوجود لأنه يضرب بعضها بعضا
وقارن بين النظريتان فقال :
"مقارنة بين نظرية المشاكلة والمعاينة:
لا شك ان باستطاعة نظرية المعاينة ان تعول على ظاهر النص الذي يتحدث عن اعيان الوجود بأشكاله وعلاقاته المختلفة دون حاجة للتأويل، وان تفسيرها لهذا الظاهر يقوم على الباطن المتمثل بالقبلية الوجودية. فهي تتقبل الظاهر قبولاً تاماً، وتعترف ان ما تريده من تفسير يتطابق مع دلالة الظاهر من غير مخالفة. لكن التفسير لدى المعاينة هو غير التفسير لدى المشاكلة، فهذه الاخيرة تعتبر الظاهر الحرفي هو روح المعنى العام المشترك، حيث به تفسّر النص بعيداً عن الفهم الحسي حينما يتعلق الامر بالعالم الغيبي والالهي، في حين ان الامر مع المعاينة لا يحتاج الى مثل هذا التحويل، لانه يمكن التعويل على الفهم الحسي حتى عندما يتضمن النص ذكر صفات الحق وعلاقاته بخلقه فالفهم لدى المشاكلة يقوم على الظاهر العام غير المتعين، بينما الفهم لدى المعاينة قائم على الظاهر المنزل تنزيلاً بحسب ما عليه التعينات ومنها التعين الحسي. او يمكن القول ان الفهم لدى كل منهما لا بد ان يختلف عن الاخر بحكم ما تحدده قبلياتهما، فاذا كان الظاهر عندهما يدور حول المعنى الحقيقي للنص، سواء كان عاماً كما لدى المشاكلة او مشخصاً كما لدى المعاينة، فان الباطن المتمثل بهذه القبلية مختلف، فالباطن لدى نظرية المشاكلة يعبر عن قبلية المشاكلات بين المراتب الوجودية، بينما هو لدى المعاينة يعبر عن قبلية وحدة الوجود الشخصية والعلاقة بين الحق والاعيان الثابتة في الغالب. وانه اذا كانت نظرية المشاكلة منتزعة عن مشاكلات الوجود من جهة، وعن مشاكلات اللفظ الحرفي الظاهر من جهة ثانية، وبالتالي حقّ علينا ان نطلق عليها هذه التسمية، فانه قبال ذلك نجد نظرية المعاينة تستند - في الغالب - الى العينية الوجودية التي تفرزها نظرية وحدة الوجود الشخصية، سواء كانت هذه العينية تتمثل بعينية الحق في كل شيء، او انها عينية الاعيان الثابتة، كما وتستند الى حرفية اللفظ الذي له علاقة عينية مطابقة لما عليه الوجود، ومنه الوجود الحسي، الامر الذي دعانا الى ان نصك لها تلك التسمية.
ولايضاح الاختلاف في طريقة التفسير بين النظريتين نعود الى فكرة الصفات الالهية المذكورة في عدد من النصوص القرآنية والنبوية، والتي هي موضع اتفاقهما من حيث انها دالة على الجمع بين هيئتي التنزيه والتشبيه، ويمكن تلخيصها بقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى/11 .. فاذا كان التنزيه متفقاً عليه بين النظريتين، كالذي يبدو من المقطع الاول للاية، الا ان التشبيه هو موضع الاختلاف بينهما. فبحسب نظرية المشاكلة ان المقصود من التشبيه هو ان لله صفاته التشبيهية المذكورة لكنها مجردة بحسب تشاكلات الوجود ومراتبه، فيد الله وعينه هي ليست كهذه الايدي والاعين الطبيعية، لكنها في الوقت ذاته غير منفية عنه، وانما لها من المرتبة الوجودية ما يجعلها ذات مكانة مقدسة علوية تنزلت عنها مراتب الايدي والاعين ومنها تلك التي نشهدها في الحس. وكذا يمكن القول ذاته في سائر الصفات، ومنها السمع والبصر والمجيء والهرولة والضحك والتعجب وغير ذلك من الصفات المنصوص عليها في القرآن والحديث. وهذا ما ذهب اليه صدر المتألهين، حيث جمع بين التنزيه والتشبيه ليوافق من سبقه من الاشراقيين وبعض العرفاء كالغزالي. وان كان يستخدم لهذا الغرض احياناً نصوص ابن عربي، حتى دون الاشارة اليه
أما المقصود من التشبيه لدى ابن عربي واتباعه فهو يعود بنا الى وحدة الوجود الشخصية عبر مرآتي الحق والخلق. فهناك ثلاثة محاور لهذه العلاقة، هي الحق والاعيان الثابتة والخلق، وبين هذه المحاور الثلاثة مسانخات بعضها يتضمن البعض الاخر، او ان بعضها يكون مرآة للبعض الاخر، فالاعيان الثابتة هي صور الحق، وهي من هذه الناحية تمثل ذات الحق من غير اختلاف، كما ان الخلق يمثل الاعيان عند ظهورها وتجليها، فالخلق مُشاكل لما عليه الاعيان، كما ان الخلق لا يظهر الا من حيث تجلي الحق، وبالتالي فالخلق يعبر عن صور تفاصيل الحق المتمثلة بالاعيان، لذلك فبالتجلي يكون الخلق حقاً، وكذا فان الحق خلق، مثلما هو الحال في العلاقة بين الحق والاعيان، حيث الحق هو الاعيان، والاعيان هي الحق.
وبحسب هذه التقابلات فان الحق عند التجلي قد اختفى في الخلق واظهره، كالمرآة التي تظهر الصورة وتختفي بسببها، مع ان كل ما يظهر من صور الخلق فانما هو الحق في تعيناته وشؤونه؛ كالذي تشير اليه الاية الكريمة: {كل يوم هو في شأن} الرحمن/29. او كما يقول ابن عربي انه اذا كان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فيه، فاذا كان متجلياً في مرايا الاعيان لا يكون الظاهر الا هو، والاعيان باقية في الغيب على حالها من العدم الخارجي، وبذلك يكون الخلق جميع اسماء الحق كالسمع والبصر وجميع نسبه وادراكاته. أما إن كان الخلق هو الظاهر فالحق مستور باطن فيه، كالصورة الظاهرة التي تستر المرآة، وبذلك فان الحق يكون سمع الخلق وبصره ويده ورجله وجميع قواه وله في ذلك بيت من الشعر يقول فيه:
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا وليس خلقاً بذاك الوجه فادّكروا مما يعني ان الحق خلق حيث يظهر في المظاهر الخلقية ويختفي بها، مع ان المشهود غيباً وشهادة هو الحق الصرف لا غير، فالحق المنزه بهذا الاعتبار هو الخلق المشبّه، أما كونه ليس خلقاً فهو انه منزه عن الصفات الخلقية ومختف بحجاب عزته باق في غيبته لا يُشهد ولا يُرى، فكل ما يُشهد ويُرى انما هو خلق. أما اعتبار الحق مشبهاً بالخلق فهو لأن اطلاق الصفات يصح عليهما معاًً، فكما يصح ان يقال عن الخلق او العبد انه يسمع ويرى، فكذا يصح ان يقال عن الحق نفس القول، وهذا هو معنى التشبيه الذي جاء حول الاية الكريمة: {وهو السميع البصير}.
فكل صفات المحدثات والخلق حق للحق، مثلما ان كل صفات الحق حق ثابت للخلق، اذ الخلق يظهر بصفات الحق من اولها الى اخرها، خاصة الانسان الكامل او الحقيقة المحمدية مثلما يشير الى ذلك قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني ادم} الاسراء/70، وقوله: {وعلم ادم الاسماء كلها} البقرة/31، وكذا ما جاء في الحديث: خلق الله ادم على صورته
اذن ان من ابرز مظاهر التشبيه التي اكدها ابن عربي هو التشبيه الذي يعبر عن الرتبة الخلقية التي يظهر فيها الحق بمختلف اشكال الصور، فيظهر بصور الايدي والاعين والسمع والبصر والكلام وغير ذلك، حيث ظهور الحق بصفات المحدثات والنقص والذم، واليه الاشارة في قوله تعالى: {كل يوم هو في شأن} الرحمن/29
فللاية دلالة على ظهور الحق بمظاهر المحدثات والنقص، وهي تعني ان من المحال ان تبقى الاشياء في العالم على حالة واحدة زمانين، بل تتغير عليها الاحوال والاعراض في كل لحظة، فهذه هي شؤون الحق لا غيراو ان الحق يظهر بصفات الفقر والحاجة كالذي يشير اليه قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} البقرة/245، او ما جاء في الحديث القدسي: جعتُ فلم تطعمني، مرضتُ فلم تعدني، ظمئتُ فلم تسقني مهما يكن فان استظهار النصوص التي تتعلق بالصفات الالهية لدى كل من نظرية المشاكلة والمعاينة؛ انما يدل على تعددية التفسير لظاهر النص الواحد. مع ان كلا النظريتين استهدفتا هدفاً واحداً مشتركاً هو التوفيق بين العينتين الدينية والوجودية، حيث الدينية بحسب الظاهر، والوجودية بحسب التفسير والباطن."
وبعد ذكر الفروق والخلافات انتهى الرجل إلى أن الفريقين اضطروا لممارسة التلفيق والتحريف لتغطية النقص عند كل منهم فقال :

"وعلى العموم ان اسلوب الجمع والتوفيق الذي لجأ اليه اصحاب نظريتي المشاكلة والمعاينة انما تمّ تبعاً لمبرر مبدأ الاعتبار، لكنه ادى في الكثير من الاحيان الى ان يكون اداة لممارسة التلفيق والاستغراق في المباطنة. كما تحول في احيان اخرى الى صيغة من صيغ استخدام التأويل وتحريف الآيات رغم الجهد الذي قدمه اولئك الاصحاب في ذم التأويل والانكار الشديد على المتأولين، ولزوم التمسك بالنص وترجيحه على الكشف عند التعارض"
 

مواضيع مماثلة

أعلى