سليمان بن أحمد الطيراني

عطر الجنه

كاتب محترف
والطيراني نسبة إلى مدينة طبرية* حيث يقال إنه ولد. ويقال إنه ولد بعكا. وعلى كل فقد كان أبوه مقيما بطبرية من قبل وكان رجلاً من أهل الحديث والتصرف.
طلب سليمان العلم بإشراف أبيه في وقت مبكر، وكان له من العمر إذ ذاك ثلاث عشرة سنة. واصطحبه أبوه إلى القدس* فكانت هذه الزيارة فاتحة رحلة علمية واسعة امتدت زهاء ثلاثين سنة لتحصيل أكبر قدر ممكن من الأحاديث النبوية ومصفاتها سماعاً من الشيوخ أو قراءة عليهم.
وكان أن امتدت رحلته في أرجاء فلسطين أربع سنوات (274 – 277هـ/ 887 – 890م) زار خلالها حواضر العالم في بلده، فسمع الحديث في طبرية، وبيت المقدس، والرملة* وعكا*، وقيسارية* وأرسوف*، ويافا* وعسقلان، وغزة*. كما دخل قرى سجلين، وعجس، وحندرة من نواحي عسقلان، ورمادة الرملة، للغرض نفسه.
ثم رحل في سنتي 278 و279هـ/ 891 و892م في سائر بلاد الشام فزار ثلاثاً وثلاثين مدينة وقرية في الداخل والساحل ومنطقة الثغور في الشمال.
ثم كان بمصر سنة 280هـ/ 893م ودخل دمياط والجيزة وقلزم (القريبة من مدينة السويس حالياً).
ورحل إلى الحجاز واليمن فزار مكة والمدينة سنة 283هـ/ 896م، ثم صنعاء سنة 284هـ/ 897م. ويبدو أنه قفل راجعاً من اليمن إلى مصر ثانية سنة285هـ/ 898م.
ثم ارتحل إلى العراق فمكث في بغداد سنتي 287 و288هـ/ 900م، وزار الأهواز التي كانت من أكثر المراكز الثقافية تألقاً في العالم الإسلامي.
ثم واصل الرحلة إلى المشرق فنزل أصبهان سنة 290هـ/ 902م ولكنه ما لبث أن خرج منها ليعود إليها ثانية في سنة 300هـ/ 912م عازماً على الاستقرار فيها وقضاء بقية حياته بنشر الحديث النبوي ويرحل إليه طلاب العلم من الأقطار. ولا ريب في أن اختياره هذه المدينة مجالاً لنشاطه العلمي الكبير إنما عبر عن وحدة الفكر والثقافة في أقطار العالم الإسلامي يومئذ. فقد كانت أصبهان آنذاك مركز نشاط حضاري هيأة لها الأمن التي كانت تنعم به، على حين كانت حواضر الحجاز والعراق والشام مسرحاً لاضطراب عنيف بسبب غارات القرامطة سنة 293هـ/ 905م، فنهبوها وفتكوا بأهلها.
توفي أبو القاسم الطيراني عن عمر بلغ مئة عام وعشرة أشهر، ودفن إلى جنب قبر الصحابي حممة الدوسي بباب مدينة أصبهان.
تميز الطيراني بظاهرة قيمة هي اتساع فترة نشاطه العلمي التي بلغت تسعين عاماً قضى ثلاثين منها في الرملة والطلب، وبقي بعد ذلك محدثاً ستين سنة. وترتب على ذلك كثرة مشيخته واتساع رؤيته وضخامة انتاجه.


لقد أدرك برحلته الواسعة مشيخة عظيمة، وبلغ الغاية في سعة الرؤية وضخامة الانتاج، وكان عدد مصنفاته زهاء تسعين كتاباً ما بين سفر كبير في عدة مجلدات وجزء صغير من بضع ورقات. ثم انه يروي القراءات عن علي بن عبد العزيز البغوي. كما يروي عدداً من الكتب في الحديث من تصنيف غيره، يضاف إلى ذلك عمله الدائب في مجال الحديث.
ومعظم مصفاته “مسانيد حفاظ” ومنتخبات وأمال حديثية، وله مع ذلك كتب في التفسير وأخرى في أبواب الفقه كالأشربة والطهارة والفرائض والمناسك والإمارة، ونظيرها في التاريخ كأخبار عمر بن عبد العزيز، ومعرفة الصحابة، وأمهات النبي صلى الله عليه وسلم، بل وفي الأدب كالغزل وعشرة النساء. ولكنها جميعا لا تخرج عن مناهج المحدثين في تصانيفهم.
على أن كتباً أخرى له في مناقب الإمام أحمد وذم الرأي والرد على المعتزلة قد تغري بالركون إلى ما اتفق عليه أصحاب طبقات الحنابلة، إذ سلكوه في عداد أتباع إمامهم بحجة سماعه من جماعة من أصحاب الامام على رأسهم ابنه عبد الله بن أحمد بن حنبل. ولكن التحقيق في هذه المسألة يهدي إلى التوقف عن الحكم في ضوء المعلومات الراهنة، إذ لم يشتهر الطيراني بالفقه ولم تؤثر عنه الفتوى مقلداً ولا مجتهداً. والغالب على الظن أنه ما خرج من آفاق المحدثين.
وقد حقق علمه انتشاراً واسعاً في حياته فازدحم عليه المحدثون ورحلوا إليه من الأقطار كما ملأ حديثه البلاد بعد وفاته، ولا سيما في زمان زاويته أبي بكر بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن ريذة (346 – 440هـ/ 957 – 1048م).
ومن الطريف أن اهتم بنو المقدسي – أسرة من فلسطين استوطنت دمشق منذ القرن السادس الهجري وأنجبت عدداً من المحدثين البارزين – اهتم هؤلاء وعدة من المحدثين الشاميين بحديث الطيراني فارتحل عدد منهم خلال النصف الثاني من القرن السادس الهجري إلى أصبهان فاستنجدوا من بقايا المشيخة لهم ولأقاربهم، وجلبوه معهم إلى الشام، ورووه، ونشروه.
لكن المؤسف أن القسم الأكبر من مصنفاته أصبح الآن مفقوداً. ويبدو أن بعضها قد فقد من زمن بعيد. كما أن الباقي من تراثه ما زال معظمه مخطوطاً لم ينشر على الناس، وحتى المطبوع من كتبه لم يستوف شروط النشر العلمي.
ولا ريب في أن أجل أعمال الطيراني هو المعاجم الثلاثة. وقد اشتهر بها فلا يكاد يذكر اسمه إلا مقروناً بها. وقد كانت فيما يظهر حصيلة علمه وخاتمة إنتاجه في الوقت نفسه. وأول هذه المعاجم الثلاثة المعجم الكبير، وهو أضخم كتبه قاطبة. وقد جرى زهاء ثلاثة وثلاثين ألف حديث. وهو معجم من أسماء الصحابة من الرجال والنساء وتراجمهم وما رووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. بدأ فيه بالخلفاء الأربعة، ثم إلى آخر العاشرة المبشرين بالجنة، ثم سائر الصحابة مرتبين على حروف المعجم في أوائل أسمائهم. وكان عند توافق الأسماء يجعل التنسيق بينها على القبائل المنسوبة إليها. ويلاحظ في هذا المعجم خلوه من “مسند أبي هريرة” لأن المصنف أفرده في كتاب.
تبدأ الترجمة بذكر اسم الصحابي ونسبة وشيء من أخباره. (وقد أفاد منه أحمد بن حجر العسقلاني* في تأليف كتابه الكبير: الإصابة في تمييز أسماء الصحابة). ثم تأتي الرواية فيسوق حديث المقلين حصراً، ويختار من حديث المكثرين، ومن لم تكن له رواية نقل ترجمته من كتب المغازي.
وفي مسانيد الصحابة المكثرين يسوق أحاديثهم على ترتيب الرواة عنهم فرواة الرواة. ويستقضي أحياناً فيخرج الحديث الواحد من كافة الطرق التي بلغته عن الصحابي، وأحياناً يعقد لبعض المسائل أبواباً خلال المسند.


ويبدو أن الطيراني استمد بعض مادة معجمه من: مصنف عبد الرزاق الصغاني، ومسند مسدد بن مسرهد، ومسند أحمد، وموطأ مالك. ونقل كذلك من كتب المغازي لعرفة بن الزبير، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وموسى بن عقبة المدني ومحمد بن اسحاق. ومن تاريخي خليفة بن خياط، وأبي زرعة الدمشقي.
وقد أفاد بعض مروياته الشعرية من أبي خليفة الجمحي عن أبي الفرج الرياشي. كما روى شعراً وأخباراً من كتب الزبير بن بكار وهشام الكلبي وغيرهما.
وقد وصلنا هذا الكتاب قطعاً متناثرة في مكتبات القسطنطينية ودمشق والرباط وباريس. ومن الشكوك فيه أن تألفت منها نسخة كاملة. وقد طبع في العراق في سنتي 1978 و1979 قطعة من أوله في أجزاء في مطبوعات وزارة الأوقاف العراقية.
أما المعجمان الأوسط والصغير فمرتبان على حروف المعجم في أسماء شيوخه. ولكن الأوسط مطول حوى زهاء اثني عشر ألف حديث، وأتى فيه عن كل شيخ بما له من الغرائب والفوائد فبين بذلك سعة روايته وكشف عن نفائس علمه. وكان الطيراني شديد الإعجاب بكتابه هذا إذا قال عنه: “هذا الكتاب روحي”. وهو مصنف ضخم رواه عنه تلميذه أبو نعيم الأصبهاني (ت 430هـ/ 1038م). وقد بقي منه نسخة وبعض أخرى في مكتبات القسطنطينية.
أما الصغير فهو معجم شيوخ، وكذلك سمي في بعض المصادر. وذكر فيه الطيراني 1.150 شيخاً ممن كتب عنهم في الأمصار، واقتصر فيه غالباً على حديث واحد عن كل شيخ فبلغت جملة أحاديثه 1.209. وقد أمتاز هذا الكتاب بأنه يقدم معلومات دقيقة عن رحلة الطيراني الواسعة، وعن توزع شيوخه في الأمصار.
فهو بذلك يمكن من استنتاج تصورات صحيحة عن مراكز الاشعاع الثقافي في العالم الإسلامي آنذاك، وعن مدى نشاط كل منها. وقد طبع هذا المعجم الصغير مرتين: في دلهي، ثم في القاهرة، وما يزال بحاجة إلى نشرة محققة.
انتخب أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه (ت 416هـ/ 1025م) من حديث شيخه الطيراني عدة أجزاء وصلت بعض منها برواية أبي نعيم الأصبهاني عن الطيراني. ورتب علي ابن بلبان الفارسي المصري (ت 739هـ/ 1328م) المعجم الكبير للطيراني ترتيباً جديداً على أبواب الفقه، وكتابه مفقود، وانتقى شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/ 1347م) مختارات من المعاجم الثلاثة بقي بعض منها.
ثم قام علي بن أبي بكر الهيثمي المصري (ت 807هـ/ 1404م) بالعناية بمعاجم الطيراني فجرد زوائد المعجم الكبير على الكتب الستة ورتبها على أبواب الفقه في كتاب سماه: “البدر المنير في زوائد المعجم الكبير” في ثلاثة مجلدات، وهو مفقود. ثم قام بالعمل نفسه في المعجمين: الأوسط والصغير في كتاب سماه: “مجمع البحرين في زوائد المعجمين “. وهو كتاب نفيس منه قطعة في المكتبة الظاهرية بدمشق ونسخة كاملة في مكتبة الحرم الملكي. ثم جمع زوائد المعاجم الثلاثة إلى زوائد مسانيد أحمد وأبي يعلى الموصلي وأبي بكر البزار في كتاب واحد مخاوف الأسانيد مع الكلام عليها بالصحة والحسن والضعف، وسماه: “مجمع الزوائد ومنبع الفوائد” وقد طبع في بيروت سنة 1967 طبعة حديثة متقنة.
إن معظم الباقي من كتب الطيراني قد توزعت مخطوطاته مكتبات القسطنطينة والمكتبة الظاهرية بدمشق، وذلك مما آل إليها من وقف بني المقدسي المذكورين آنفاً. وشيء يسير تناثر في مكتبات برلين، ولندن، وباريس، والرباط، وسوهاج، وحيدر آباد. وقد قام منها معهد المخطوطات العربية في القاهرة بتصوير قسم كبير منها.​
 

سمر

كاتب جيد جدا
مرحبا عطر الجنه, شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية ..
 
أعلى