جبران خليل جبران

جبران خليل جبران
1883 ـ 1931
المهندس جورج فارس رباحية

ولد جبران هذا الفيلسوف والأديب والشاعر والرسام من أسرة صغيرة فقيرة في بلدة بشري يوم الجمعة في 6 كانون الأول 1883. كان والده خليل جبران الزوج الثالث لوالدته كاملة رحمة التي كان لها ابن اسمه بطرس من زواج سابق ثم أنجبت جبران وشقيقتيه مريانا وسلطانة .
كان والد جبران راعيا للماشية، ولكنه صرف معظم وقته في السكر ولم يهتم بأسرته التي كان على زوجته كميلة، وهي من عائلة محترمة وذات خلفية دينية، ان تعتني بها مــــاديا ومعنويا وعاطفيا. ولذلك لم يرسل جبران إلى المدرسة، بل كان يذهب من حين إلى آخر إلى كاهن البلدة الذي سرعان ما أدرك جديته وذكاءه فانفق الساعات في تعليمه الأبجدية والقراءة والكتابة مما فتح أمامه مجال المطالعة والتعرف إلى التاريخ والعلوم والآداب. وفي العاشرة من عمره وقع جبران عن إحدى صخور وادي قاديشا وأصيب بكسر في كتفه اليسرى ، عانى منه طوال حياته.
لم يكف العائلة ما كانت تعانيه من فقر وعدم مبالاة من الوالد، حتى جاء الجنود العثمانيون يوم (1890) والقوا اقبض عليه أودعوه السجن، وباعوا منزلهم الوحيد، فاضطـــــرت العائلة إلى النزول عند بعض الأقرباء. ولكن الوالدة قررت ان الحل الوحيد لمشاكل العائلة هو الهجرة إلى الولايات المتحدة سعيا وراء حياة أفضل.
عام 1894 خرج خليل جبران من السجن، وكان محتارا في شأن الهجرة، ولكن الوالدة كانت قد حزمت أمرها، فسافرت العائلة تاركة الوالد وراءها. ووصلوا إلى نيويورك يوم الثلاثاء في 25 حزيران 1895 ومنها انتقلوا إلى مدينة بوسطن وفي حي من أحيائها كانت تسكن اكبر جاليـــة لبنانية في الولايات المتحدة مع مهاجرين من الإيطاليين والمجر والسلاف والسوريين وغيرهم . وبذلك لم تشعر الوالدة بالغربة، بل كانت تتكلم اللغة العربية مع جيرانها، وتقاسمهم عاداتهم اللبنانية التي احتفظوا بها.
اهتمت الجمعيات الخيرية بإدخال جبران إلى المدرسة، في حين قضت التقاليد بأن تبقى شقيقتاه في المنزل، في حين بدأت الوالدة تعمل كبائعة متجولة في شوارع بوسطن على غرار الكثيرين من أبناء الجالية. وقد حصل خطأ في تسجيل اسم جبران في المدرسة وأعطي اسم والده، وبذلك عرف في الولايات المتحدة باسم “خليل جبران”. وقد حاول جبران عدة مرات تصحيـــــح هذا الخطأ فيما بعد إلا انه فشل.
بدأت أحوال العائلة تتحسن ماديا، وعندما جمعت الأم مبلغا كافيا من المال أعطته لابنها بطرس الذي يكبر جبران بست سنوات وفتحت العائلة محلا تجاريا. وكان معلمو جبران في ذلك الوقت يكتشفون مواهبه الأصيلة في الرسم ويعجبون بها إلى حد ان مدير المدرسة استدعى الرســــام الشهير هولاند داي لإعطاء دروس خاصة لجبران مما فتح أمامه أبواب المعرفة الفنية وزيارة المعارض والاختلاط مع بيئة اجتماعية مختلفة تماما عما عرفه في السابق.
كان لدي فضل اطلاع جبران على الميثولوجيا اليونانية، الأدب العالمي وفنون الكتابة المعاصرة والتصوير الفوتوغرافي، ولكنه شدد دائما على ان جبــــران يجب أن يختبر كل تلك الفنون لكي يخلص إلى نهج وأسلوب خاصين به. وقد ساعده على بيع بعض إنتاجه من إحدى دور النشـــر كغلافات للكتب التي كانت تطبعها. وقد بدا واضحا انه قد اختط لنفسه أسلوبا وتقنية خاصين به، وبدأ يحظى بالشهرة في أوساط بوسطن الأدبية والفنية. ولكن العائلة قررت ان الشهرة المبكرة ستعود عليه بالضرر، وانه لا بد أن يعود إلى لبنان لمتابعة دراسته وخصوصا من أجل إتقاـــن اللغة العربية.
وصل جبران إلى بيروت عام 1898 وهو يتكلم لغة إنكليزية ضعيفة، ويكاد ينسى العربية أيضا. والتحق بمدرسة الحكمة التي كانت تعطي دروسا خاصة في اللغة العربية. ولكن المنهج الـــــذي كانت تتبعه لم يعجب جبران فطلب من إدارة المدرسة أن تعدله ليتناسب مع حاجاته. وقد لفت ذلك نظر المسؤولين عن المدرسة، لما فيه من حجة وبعد نظر وجرأة لم يشهدوها لدى أي تلميذ آخر سابقا. وكان لجبران ما أراد، ولم يخيب أمل أساتذته إذ أعجبوا بسرعة تلقيه وثقته بنفسه وروحه المتمردة على كل قديم وضعيف وبال.
تعرف جبران على يوسف الحويك واصدرا معا مجلة “المنارة” وكانا يحررانها سوية فيما وضع جبران رسومها وحده. وبقيا يعملان معا بها حتى أنهى جبران دروسه بتفوق واضح في العربية والفرنسية والشعر (1902). وقد وصلته أخبار عن مرض أفراد عائلته، فيما كانت علاقته مع والده تنتقل من سيء إلى أسوأ فغادر لبنان عائدا إلى بوسطن، ولكنه لسوء حظه وصل بعد وفاة شقيقته سلطانة. وخلال بضعة أشهر كانت أمه تدخل المستشفى لإجراء عملية جراحية لاستئصال بعض الخلايا السرطانية. فيما قرر شقيقه بطرس ترك المحل التجاري والسفر إلى كوبا. وهكذا كان على جبران أن يهتم بشؤون العائلة المادية والصحية. ولكن المآسي تتابعت بأسرع مما يمكن احتماله. فما لبث بطرس ان عاد من كوبا مصابا بمرض قاتل وقضى نحبه بعد أيام قليلة (يــــوم الخميس12 آذار 1903) فيما فشلت العملية الجراحية التي أجرتها الوالدة في استئصال المرض وقضت نحبها يوم الحد في 28 حزيران من السنة نفسها.
إضافة إلى كل ذلك كان جبران يعيش أزمة من نوع آخر، فهو كان راغبا في إتقان الكتابة باللغة الإنكليزية، لأنها تفتح أمامه مجالا أرحب كثيرا من مجرد الكتابة في جريدة تصدر بالعربية في أميركا (المهاجر) ولا يقرأها سوى عدد قليل من الناس. ولكن إنكليزيته كانت ضعيفة جدا. ولم يعرف ماذا يفعل، فكان يترك البيت ويهيم على وجهه هربا من صورة الموت والعذاب. وزاد من عذابه ان الفتاة الجميلة التي كانت تربطه بها صلة عاطفية، وكانا على وشك الزواج في ذلك الحين (جوزيفين بيبادي)، عجزت عن مساعدته عمليا، فقد كانت تكتفي بنقد كتاباته الإنكليزية ثم تتركه ليحاول إيجاد حل لوحده. في حين ان صديقه الآخر الرسام هولاند داي لم يكن قــادرا على مساعدته في المجال الأدبي كما ساعده في المجال الفني. وأخيرا قدمته جوزفين إلى امــــرأة من معارفها اسمها ماري هاسكل (1904) (1)، فخطّت بذلك صفحات مرحلة جديدة من حياة جبران كانت ماري هاسكل امرأة مستقلة في حياتها الشخصية وتكبر جبران بعشر سنوات، وقد لعبت دورا هاما في حياته منذ ان التقيا. فقد لاحظت ان جبران لا يحاول الكتابة بالإنكليزية، بل يكتب بالعربية أولا ثم يترجم ذلك. فنصحته وشجعته كثيرا على الكتابة بالإنكليزية مباشرة. وهكذا راح جبران ينشر كتاباته العربية في الصحف أولا ثم يجمعها ويصدرها بشكل كتب ، ويتدرب في الوقت نفسه على الكتابة مباشرة بالإنكليزية.
عام 1908 غادر جبران إلى باريس لدراسة الفنون على نفقة ماري هاسكل وهناك التقى مجددا بزميله في الدراسة في بيروت يوسف الحويك. ومكث في باريس ما يقارب الثلاث سنوات زار خلالها روماا وبروكسل ولندن برفقة الكاتب أمين الريحاني قبل أن يعود إلى أميركا .فوصل إلى بوسطن في كانون الأول عام 1910، حيث اقترح على ماري هاسكل الزواج والانتــــــقال إلى نيويورك هربا من محيط الجالية اللبنانية هناك والتماسا لمجال فكري وأدبي وفني أرحب. ولكن ماري رفضت الزواج منه بسبب فارق السن، وان كانت قد وعدت بالحفاظ على الصداقة بينهما ورعاية شقيقته مريانا العزباء وغير المثقفة. أسّس الرابطة القلميّة في نيويورك عام 1920مع إخوانه أساطين الأدب العربي في المهجر: نسيب عريضة – ميخائيل نعيمة – ندرة حداد – عبد المسيح حداد – رشيد أيوب – إيليا أبي ماضي – أمين الريحاني – وليم كاتسفيلد .
وهكذا انتقل جبران إلى نيويورك ولم يغادرها حتى وفاته . وهناك عرف نوعا من الاستقرار رودان وساره برنار وغوستاف يانغ وسواهم. سنة 1923 نشر جبران كتاب النبي باللـــــــغة الإنكليزية، وطبع ست مرات قبل نهاية ذلك العام ثم ترجم فورا إلى عدد من اللغات الأجنبية، . على الرغم من كل ما كُتب عن علاقات جبران الغرامية بعدد من النساء أمثال سلمى كرامة (2) وماري هاسكل المرأة التي اكتشفت نبوغه قبل الجميع وشملته برعايتها وميشلين (3) فإن حبه لمي زيادة (4) كان الحب الوحيد الذي ملك عليه قلبه وخياله ، ورافقه حتى نهاية حياته . كانت مي معجبة بمقالات جبران فبدأت بمراسلته بعد اطلاعها على كتاب الأجنحة المتكســــرة الذي أصدره عام 1912 ، ومن المؤسف ضياع جواب جبران على رسالتها الأولى . لكن رسالته الأولى كانت مؤرخة في 2/1/1914 تشير إلى رسائل تلك الفترة كانت قليلة ، متقطعة استنادا لقول جبران في الرسالة ( .... فلنعد إلى متابعة الحديث الذي ابتدأنا به منذ عامين ) . بقيت مراسلتهما حتى وفاته عام 1931 رغم إنهما لم يلتقيا أبدا . وبالاطلاع على كتاب ( الشـــــعلة الزرقاء ) الذي أصدراه (سلمى الحفار الكزبري والدكتور سهيل بديع بشروئي ) المتضمن 37 رسالة من جبران إلى مي مع صور عن الرسائل المخطوطة من عام 1914 إلى عام 1931 وكان آخرها إحدى رسومه أرسلها إلى مي بتاريخ 26/آذار/ 1931 قبل وفاته بـ 15 يوماً . تبين تلك الرسائل حبه العميق لمي زيادة .
توفي جبران يوم الجمعة في 10 نيسان 1931 في مستشفى القديس فنسنت في نيويورك بعد أصابته بمرض سرطان في الكبد (5) وقد لفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي صديقه ميخائيل نعيمة (6) . نقل الجثمان إلى بوسطن وبقي مسجّى حتى يوم الثلاثاء في قاعة جمعيـــــة المساعدات للسيدات السوريات نقل بعد ذلك إلى كنيسة سيدة الأرز المارونية بعدها إلى المقبرة حيث أودع مدفنا مؤقّتا ريثما تفتح وصيّته . وقد قرّ رأي شقيقته مريانا نقل جثمانه إلى بلدته بشري فوصل الجثمان يوم الجمعة 21 آب 1931 حيث استقبله الأهالي. ثم عملت شقيقته على مفاوضـــــــة الراهبات الدير واشترتا منهما دير مار سركيس(7) الذي نقل إليه جثمان جبران ، وكُتِبَ فوق ضريحه : ( هنا يرقد بيننا جبران ) التي قرأها ميخائيل نعيمة عندما زار الضريح في صيف عام 1932 وما يزال إلى الآن متحفا مع بعض رسومه وأصبح مقصدا للزائرين .
وصية جبران : كانت مؤرخة يوم الخميس في 13/ آذار 1930 أي قبل وفاته بما يقارب السنة وجاء فيها :
ــ إلى شقيقتي مريانا : كل ما أملك من حصص شركة المحترف والأموال الموجودة في صندوق الودائع في بنك منهاتن ودفاتر التوفير . وأريد من شقيقتي أن تأخذ هذا المال إلى بلدتي بشـــرّي وتنفقه هناك على الإحسان .
ــ أوصي لبشرّي بريع كتبي ، حسبما أعرف يمكن لورثتي أن يطلبوا تجديد الاحتفاظ بحقــــوق طبعها لثمان وعشرين سنة بعد مماتي .
ــ كل رسومي وكتبي وسلع فنية أوصي بها بعد مماتي إلى ماري هاسكل .
ــ بلغ مجموع تركة جبران 53196 دولاراً
ما قيل عن جبران خليل جبران :
ــ قال عنه ميخائيل نعيمة في كتابه جبران خليل جبران : عندما عدت إلى الشرق بعد عام لوفاة جبران وجدت صديقي يكاد يكون أسطورة من الأساطير حتى في بلاده .
ــ قال جورج صيدح عن جبران : انه مصوّر رمزي الطابع ، فرســـومه تمثل الذروة من فن جبران وتضع شعره في أجمل إطار اتيح صنعه لشاعر فنان ، تضفي على افكاره قوة وســـموّاً وروعة غامضة الأشكال عميقة الإيحاء لا يدرك مراميها ويح رموزها إلاّ الراسخون في الفن .
ــ زارت لبنان ابنة ملك سكيم في أقصى جبال التيبت لتتعرّف على وطن جبران وفي حديث لها مع مجلة الصيّاد قالت : إن شعب التيبت لا يقرأ إلاّ الكتب الدينية ودواوين الشعر وقصص جبران خليل جبران .
ــ إن المهاجرين وغيرهم عرفوا قدر جبران وأصبح في نظـــرهم نابغتهم وفيلسوفهم وراحــــوا يترجمون كتبه إلى العربية ولكن كعادتهم انتظروا يوم وفاته لتكريمه وتقديسه .
ــ بينما الأميركيون عظموه في حياته ومنحوه ما يستحق من قلوبهم وجيوبهم فكتبت عنــــه فـي حياته جريدة نيويورك هرلد : ( إنه نابغة ستين مليونا من الشرقيين المتكلمين العربية )
ــ قال عنه أحد المفكرين الغربيين : إن جميع كتابات جبران تدعو إلى التفكير العميق ، بل تُرغِم قارئها على تشغيل ذهنه وعقله ، فإن كنتَ تخاف أن تُفَكّر فالأجدر بك ألاّ تقرأ لجبران .
ــ وقال آخر : إن جبران قد اقترب من الغرب وعلى شفتيه ابتسامة الشرق الجميلة ، يحمل عطية ثمينة في صدره لكي يقدّمها إلى الغرب ، فقد جاء كالمسيح يطفح قلبه محبة .
ــ وقال آخر : جبران مفكّر عميق وشاعر غير مُخَيَّر في شاعريته ، فكل عبارة تخرج من شفتيه ملؤها الفكر والشعر ، فإذا لم تًشاطر جبران شعوره وتصبغ فكرك بصبغة فكره ، فعبثاً تُحاول أن تُرافقه في سياحاته .
ــ وقال عنه أوغست رودين أعظم نحّاتي العصر الحاضر عندما زار معرض صوره في باريس (( إن العالم يجب أن ينتظر كثيراً من شاعر لبنان ونابغته جبــــــران ، فهو( وِلْيَم بلايك ) القرن العشرين )) .
مؤلفات حبران خليل جبران
بالعربية:
الموسيقى 1905 ـ الأرواح المتمردة 1908 ـ الأجنحة المتكسرة 1912 ـ المواكب 1913كتابه الشعري الوحيد ـ دمعة وابتسامة 1914 ـ العواصف 1920 وهو آخر كتاب ألّفه بالعربيـــــة ـ كلمات جبران ـ كوكب الشعوب والأمم ـ بلاغة العرب ـ رســـائل جبران ـ مناجــــــاة أرواح ـ البدائع والطرائف ـ عرائس المروج ــ كتاب رسائل جبران إلى مي زيادة ( الشعلة الزرقاء ) لمؤلّفيه : الكزبري و البشروئي
بالإنكليزية:
المجنون 1918 ـ السابق 1920 ـ النبي 1923 ـ رمل وزبد 1926 ـ يسوع ابن الإنســـــان 1928ـ آلهة الأرض 1931 ـ التائه 1932 ـ حديقة النبي 1933
مقتطفات من أعمالـــه :
1 ـ إن ذروة أعماله هو كتاب ( النبي ) الذي أصدره عام 1918 باللغة الإنكليزية والذي تُرجِمَ إلى جميع اللغات الحية في العالم ، وطُبــــع منه في حينـــه باللغــــة الإنكليزية وحدها ما يزيد عن مليوني نسخة . لقد وضع في هذا الكتاب عصــــارة فكره الصافي وأشعة خياله الوهّاج ، وفسّرَ للناس كيف يولدون ويأكلون ويشربون ويحبون ويتزوّجون ويفرحون ويحــــــــزنون ويموتون ، في أمثال ومجـازات ومواعـظ جَوَّدَ عبـاراتها وصقلها صقلاً بارعاً.إن هذا الكتاب دائرة علم وأدب وفن وحكمة وفلسفة ، فهذا بعض ما كتب فيه :
ــ في الأبناء : دنت منه امرأة تحمل طفلها على ذراعيها وقالت له : هات حدّثنا عن الأولاد فقال : إن أولادكم ليسوا أولادا لكم . إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها ، بكم يأتون إلى العالم ولكن ليس منكم ، ومع إنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكا لكم . أنتم تستطيعون أن تمنـــــحوهم محبّتكم ، ولكنّكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم ، لأن لهم أفكاراً خاصة بهم . وفي طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادهم . ولكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم ، فهي تقطــــن في مسكن الغد ، الذي لا تستطيعون أن تزوروه ولا في أحلامكم .
ــ في الفرح والترح : قالت له امرأة هات لنا شيئاً عن الفرح والترح . فقال : إن فرحـــــكم هو ترحكم ساخراً . والبئر الواحدة التي تستقون منها ماء ضحككم قد طالما مُلئت بسخين دموعكم .... فالحق أقول لكم : إنّهما توأمان لا ينفصلان ، يأتيان معاً ويذهبان معاً ، فإذا جلس أحدهما منفرداً إلى مائدتكم فلا يغرب عن أذهانكم أن رفيقه يكون حينئذ مضجعاً على أسرّتكم .
ــ قالت له المطرة : نوّد أن تحدّثنا الآن عن الموت : فقال لها : إنكم تريدون أن تعرفوا أسرار الموت . ولكن كيف تجدونها إن لم تسعوا إليها في قلب الحياة ؟ . لأن البومة التي لا تفتح عينيها إلاّ في الظلمة ، البومة العمياء عن نور النهار ، لا تستطيع أن تنزع الحجاب عن أسرار النور . فإذا رغبتم بالحقيقة في أن تنظروا روح الموت ، فافتحوا أبواب قلوبكم على مصاريعها لنهار الحياة . لأن الحياة والموت واحد ، كما أن النهر والبحر واحد أيضاً .
2 ـ هكذا وصف جبران الموسيقى في باكورة كتبه ( الموسيقى ) عام 1905 وهو في الثانية والعشرين ربيعاً فكان كتابه فيض من خلجات قلبه المولع بالأنغام فقال في وصف الموسيقى :
ــ جاء في بدء مأساة ابن البشر ، إن التلامذة سبّحوا قبيل ذهابهم إلى بستان الزيتون حيث قُبض على معلمهم ، وكأني الآن أسمع نغم تلك التسبيحة صادراً من أعماق نفوس حزينة رأت ما سيحلّ برسول السلام فتنفست عن نغمة مؤثرة نابت عن كلمة الوداع .
ــ إنها لغة النفوس والألحان نسيمات لطيفة تهز أوتار العواطف وهي أنامل رقيقة تطرق بــــاب المشاعر وتنبه الذاكرة ، فتنشر هذه ما طوته الليالي من حوادث أثّرت فيها بماض عبر .
ــ عبدها الكلدانيون والمصريون كإله عظيم يُسجد له ويُمَجّد .
ــ اعتقد الفرس والهنود بكونها روح الله بين البشر .
ــ كانت عند اليونان والرومان الهاً مقتدراً بنوا لها هياكل عظيمة ومذابح فخيمة ، قدموا عليها اجمل قرابينهم وأعطر بخورهم ، إلهاً دعوه ( أبولون) فمثلوه وجميع الكمالات تجهله منتصبا ، كالغصن على مجاري المياه يحمل القيثارة في يسراه ويمينه على الأوتار ، رأسه مرفوع يمثل العظمة ، وعيناه ناظرتان إلى البعيد كأنه يرى أعماق الأشياء .
ــ عندما يأتي الموت ، ويمثل آخر مشهد من رواية الحياة ، نسمع الموسيقى المحزنة ونراها تملأ الجو بأشباح الأسى ، في تلك الساعة الموجعة اذ تودع النفس ساحل هذا العالم الجميل وتسبح في بحر الأبدية ، تاركة هيكلها الهيولي بين أيدي الملحنين والندابين ، نغمات يحيونها ما بقي التراب فوق التراب وان بليت يبفق صداها في خلايا الجوارح ما دام القلب يذكر ما مضى .

3ـ وفي كتابه التالي ( الأجنحة المتكسّرة ) الذي أصدره عام 1912 وكتب فصوله الأخيرة في باريس ، كان جبران بطل قصة الكتاب والوقائع التي يرويها هي حكايته مع سلمى كرامة فتاة أحلامه التي أحبّته وعاهدته على الزواج لكن المطران بولس أرغمها على الزواج من ابن أخيه فتزوجته مكرهة وماتت كمداً تلك كانت مأساة حبه الأول ، فجاء في الكتاب :
ــ هكذا قبض القدر على سلمى كرامة وقادها عبدةً ذليلة في موكب النساء الشرقيات التاعسات وهكذا سقطت تلك الروح النبيلة بالحبائل بينما كانت تسبح لأول مرة على أجنحة الحب البيضاء في فضاء تملأه أشعة القمر وتعطره رائحة الأزهار .
ــ إن دموع الشباب الغزيرة هي مما يفيض من جوانب القلوب المترعة . أما دموع الشيوخ فهي فضلات العمر تنسكب من الأحداق ، هي بقية الحياة في الأجساد الواهنة ، الدمــــوع في أجفان الشبيبة كقطرات الندى على أوراق الوردة ، أما الدموع على وجنة الشيخوخة فأشبــــه بأوراق الخريف المصْفرّة التي تنثرها الأرياح وتُذريها عندما يقترب شتاء الحياة .
4 ـ وكتابه الشعري الوحيد ( المواكب ) الذي أصدره عام 1913 الذي عرض فيه أبدع رسومه الرمزية إلى جانب أبياته الحكمية ن فقال فيه :
ــ قوله في الحياة :
الأرض خمارة والدهر صاحبها ***** وليس يرضى بها إلاّ الألى سكروا
ــ قوله في الحق :
وفي الزرازير جين وجي طائرة ***** وفي البزاة شموخ وهي تحتضر
ــ قوله في الدين :
ليس في الغابـــات دين *** لا ولا الكفـر القبيح
فـــإذا البلبـــل غنّـــــى *** لم يقل هذا الصحيح
إن ديـــن النــاس يأتي *** مثــل ظـــلّ ويروح
لم يقم في الأرض دين *** بعد طه والمســــيح
أعطني النــــاي وغن *** فالغنا خير الصتـلاة
وأنيــن النـــــاي يبقى *** بعد أن تفنى الحيــاة
ــ قوله في السعادة :
وما السعادة في الدنيا سوى شبح ***** يُرجى فإن صار جسماً ملّه البشر
ــ قوله في الحب :
والحب إن قادت الأجسام موكبه ***** إلى فراش من اللذّات ينتحر
5 ـ وهذه أغنية الليل في كتابه ( البدائع والطرائف ) التي أنشدتها المطربة فيروز :
سكن الليل ، وفي ثوب السكون *** تختبي الأحلام
وسعى البــــــدر ، وللبدر عيون *** ترصـــد الأيام
فتعالي ، يا ابنــة الحقل ، نزور *** كرمــة العشّاق
علّنــــا نطفي بذياك العصــــير *** حرقة الأشواق
اسمعي البلبل ما بين الحقــــول *** يسكب الألحان
في فضاء نفخت فيه التــــــلول *** نسمة الريحان
لا تخافي ، يا فتاتي ، فالنجــوم *** تكتم الأخبـــار
وضباب الليل في تلك الكــروم *** يحجب الأسرار
لا تخافي ، فعــروس الجن في *** كهفها المسحور
هجعت سكرى وكادت تختفي *** عن عيون الحور
ومليك الجنّ إن مـــــرّ يروح *** والهوى يثنيــــه
فهو مثلي عاشـــق كيف يبوح *** بالذي يضنيــه ؟
6 ـ شذرات من أقوال جبران خليل جبران :
ــ أكره أن اشمت بأحد ، لكن يعجبني الزمان حين يدور .
ــ الصديق المزيف كالظل يمشي ورائي عندما أكون في الشمس .. ويختفي عندما أكون في الظلام .
ــ يُحكى أن نعامة أرادت دفن رأسها في الرمال ، فارتطم رأسها برؤوس العرب .
ــ هذا العالم صعب وخائن ولا يُطاق . يجب أن يمتلك الإنسان سلاح السخرية وسلاح القوة لكي يستطيع أن يحاربه حتى الموت !
1/9/2014 المهندس جورج فارس رباحية
المفــــــــردات :
(1) ــ ماري هاسكل : مديرة مدرسة ( مس هاسكل ) للبنات في بوسطن بشارع مارلبورو .
(2) ــ سلمى كرامة : كانت حبه الأول الذي لم يكتمل ( راجع الفقرة 2 من أعماله )
(3) ــ ميشلين : معلمة اللغة الفرنسية بمدرسة ماري هاسكل .
(4) ــ مي زيادة : ( 1886 ـ 1941 ) ، أديبة وكاتبة لبنانية أتقنت اللغة العربية وتعلّمت لغات الغرب ساهمت في النهضة الأدبية ، هي أديبة الشرق والعروبة كما قال عنها محمد عبد الغني حسن ، من مؤلفاتها : باحثة البابدية ـ المساواة ـ سوانح فتـاة ـ كلمات وإشارات .
(5) ــ مرض جبران : لقد أثبت الكشف الطبي بعد الوفاة تحجّراً في الكبد مع بداية مرض السل في إحدى الرئتين .
(6) ــ ميخائيلل نعيمة : (1889 ـ 1988 ) فيلسوف واديب وناقد وقاص وشاعر وكاتب لبناني ، درس في مدينة الناصرة ثم في روسيا وهاجر إلى واشنطن في الولايات المتحدة الأميركية ن له الفضل في تنظيم الرابطة الأدبية عام 1920 . أصدر في نيويورك مســــرحية ( الآباء والبنون ) عام 1918 وكتاب ( الغربال ) عام 1922 وبعد أن توفي جبران عام 1931 غادر المهجر عائدا إلى لبنان حاملاً معه مخطوطاته العديدة بينها : العاقر ـ همس الجفون ـ كان ما كان ـ المـــراحل ـ مذكرات الأرقش ـ والكتب الأخرى : زاد المعاد ـ البيادر ـ لقاء ـ الأوثان ـ جبرا خليل جبران ـ في مهب الريح ـ صوت العالم ـ النور والديجور ـ مرداد ـ دروب ـ أكابر ، وغيرها . نظـــم الشــــعر باللغة العربية مدة عشر سنوات ( من 1917 ـ 1926 ) ونظم الشعر باللغة الإنكليزية مدة خمس سنوات ( من 1926 ـ 1930 ) .
(7) ــ دير مار سركيس : هو دير مهجور في ضاحية من ضواحي بشّري مبني في جبهة وادي قاديشا في سفح جبل الأرز بلبنان .
المصــادر والمــراجع :
ــ أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميريكية : جورج صيدح ، بيروت 1957
ــ جبران خليل جبران : ميخائيل نعيمة ،القاهرة ـ دار الهلال 1954
ــ المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران .
ــ المنجد في اللغة والأعلام : بيروت 1973
ــ الشعلة الزرقاء ( رسائل جبران إلى مي زيادة ) : سلمى الحفار الكزبري و د. سهيل بشروئي ـ وزارة الثقافة السورية 1979
ــ لطائف أخباري في متاحف أسفاري : حنا خباز ـ الطبعة الأولى ـ حمص 1923
ــ مواقع على الإنترنت :
 

مواضيع مماثلة

أعلى